لم تكن الشابَّة السُّودانية "لُبنى" تتوقع أنَّها في حين ارتدائها للبنطال في الشَّارع العام أنَّها ستُجلد أربعين عصا مُتتالية، بِحسب نظام المادة التي تنصُّ على "مَن يأتِ في مكان عام فِعْلاً، أو سلوكًا فاضحًا، أو مُخلاًّ بالأدب العام، أو يَتَزيَّا بزيٍّ فاضح، أو مُخلٍّ بالآداب العامَّة يُسبب مضايقةً للشُّعور العام - يُعاقبْ بما لا يتجاوز 40 جلدة، أو بالغرامة، أو بالعُقُوبتين معًا"، يَحق لولي أمر المسلمين أنْ يضعَ التعزيرات الرَّادعة للمخالفات؛ حيث إنَّ الحدود مقدرة والتعزيرات أمرها مفوض لرأي ولي أمر المسلمين، ولن أتكلمَ عن تلك الشابَّة ولا عن تلك السِّياط، وما مدى شرعيتها؟ وما حقوقُ ولي أمر المسلمين والحاكم على رعيته؟
كلامي سيكون عن الأدب العام والامتثال، وأنَّهما مفهومٌ تربويٌّ، وتنظيم عام للمجتمع، وكذا سأتطرق إلى ظاهرة لم تكن تطورًا اعتياديًّا بالحسابات التقليديَّة، وهل لها سلبيَّات ومضايقات للشُّعور العام؛ لذا أقول: لا بُدَّ أنْ يكون للمرء إطارٌ مرجعي يحد من تصرُّفاته وسلوكه في الشارع العام أو غيره، والإطار المرجعي لكل المجتمعات المُسلمة هو المنهج الأخلاقي الإسلامي بكل ما يَحويه من الآداب العامَّة، ولا يظن أحد أن طرح مثل هذا الموضوع أمر عبثيٌّ، فالأدبُ والأخلاق ضرورة لا يستغني عنها أيُّ مُجتمع من المجتمعات.
إنَّ عدمَ توفر الاحترام الكافي عند الفرد للشارع العام في ملبسه أو تَصرُّفاته العامة له دليلٌ على ضمور القيم، وغيابِ فضائل الأخلاق في مفاهيمه وأفكاره، والالتزام بالأدب الشَّرعي، والعُرف الاجتماعي الموافق للشريعة يظل مظهرًا من المظاهر التي تجسد شخصية ذلك الفرد، أو هو شكل من أشكال الامتثال للمبادئ والقيم الشَّرعية، وتعبيرًا مخلصًا، وترجمة حيَّة لمراعاة الشعور العام للمجتمع.
وبين البنطال الذي انضوى تَحته شرعية العُقُوبة المقرَّرة في بلاد السُّودان الشقيقة، وبين العباءة التي صدر بها مرسومٌ ملكيٌّ بأنَّ تصنيع العباءات والملابس النسائيَّة يكون في حدود الضَّوابط الشرعية، وهذه التعليمات لا بد أنْ يُعمل بها من قبل الجهات ذات العلاقة، مثل: وزارة التِّجارة، والرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغيرها من الجهات المختصة.
إلاَّ أنَّ العباءة بدأت تتجاوز الذَّوق العام، وتَخرج عن الأدب، كما هو مُشاهد في الشارع من وضع بعضِ الورود وقلوب الحبِّ على أماكن خلف العباءة، أستحي من وصفها، أو أنَّها أصبحت لاصقة على جسد المرأة التي لا تستطيعُ التحرُّك بكل مرونة من ضيق هذه العباءة، أليس هذا يُضايق الشُّعور العام، ويستحق العقوبة؟!
لكن العقوبة لمن؟ للعامل الذي يعبث بزي المرأة المسلمة من غير رقيبٍ ولا حسيب، وقد يكون مخالفًا لنظام الإقامة وغيرها من المخالفات، جاءت التعليمات بِمَنع هذه العباءات التي خالفت الضَّوابط الشرعية، ورُسِمَ عليها قلوب الحب من الخلف في أماكن يستحي رجل الشارع أنْ يشاهدها، وغيرها من الرُّموز والحروف الإنجليزيَّة التي ترمز لأول حرف من اسم مُرتديَةِ تلك العباءة، أين الجهات ذات العلاقة بهذه الظاهرة؟!
وهل تكفي كلمة "اتقي الله يا أمة الله، غيِّري عباءتك"، أو أنَّه على ضوء هذه التعليمات فيما نعلم أنه يبحث عن الجريمة في مَهدها، وأماكن تصنيع هذه العباءات الكائنة في عِزَب العمالة وسكنهم؟ والسؤال الذي أبحث عن إجابته عند القارئ، ولو أنه أسعفني بحرفٍ واحد من الإجابة؛ علَّنا نخرج من كل واحد بحرف؛ لتكونَ إجابة واحدة نترجمها عمليًّا في حل هذه المشكلة بعيدين عن التنظير؛ لكي نكون مجتمعًا عمليًّا لا مجتمعًا كلاميًّا، لا يُقدِم على مواجهة حلِّ مشكلاته: لماذا يُطارَد الشباب من سوق إلى آخر؛ بحجة أنَّه شباب مسعور يبحث عن اللحوم النَّاعمة؟ وقِفْ معي وتأمَّل، ما سبب التجاذُب المسعور في الأسواق بين الشباب والفتيات؟
هل هو عائد للحس: السمع والبصر، أو أنَّه بيولوجي طبيعي فطري، أو أنه ثقافي تربوي، أو أنَّ سببه تلك العباءة والرُّسومات التي عليها، أو أنَّ سبب التجاذُب المسعور هو العامِل الذي يصنع هذه العباءة في (عزبته) أو سكنه، ثم ينشرها بالأسواق عن طريق أصحابِ المحلات التي بعضها لا يَحمل تراخيص من الأصل، ثُمَّ تباع إلى نسائنا؟
بالله عليك، قُلْ لي ما سببُ هذا التجاذُب؟ ومَن المسؤول؟ نشرت صحيفة الرِّياض في يوم الثلاثاء 4 رمضان 1430هـ في العدد 15037 للكاتب الدكتور عبدالله الزامل مقالاً بعنوان: "العادة والعبادة والعباءة (السيتريتش)"، يقول الكاتب في مقاله: "فإذا كانت الحكمة من خلف العباءة، كعبادة تأتي خلالَ حَجْبِها وستْرِها لبدن المرأة ولزينة لباسها تحتها، فأين هي الآن عندما تحولت عبر أشكال مُتعددة تدريجيًّا، حتَّى أصبحت عادة يُقرِّبها لما يُسمَّى بـ (السيتريتش) المبرز لكل ما يجدر حجبه وستره، وكذا عندما تتحوَّل إلى فستان بنُقُوش وورود ورسوم ذات إيحاءات مُتعددة، لا يوجد واحد منها يُمكن أن يحمل على الستر والعفاف".
لا شَكَّ أنَّها مُضايقة للشعور العام، ومُشكلة تستحقُّ النَّظر في تداعياتِها، الإنسان اجتماعيٌّ بطبيعته، وتدفعه حاجته إلى الخروج من منزلة، إمَّا للمَرَافق العامَّة للتسلية والترفيه، وإما للمجتمعات التجارية؛ للبحث عن مستلزماته وحاجَاتِه، لكن للأسف يتضايق رجل الشارع المشاهد لمثل هذه العباءات وتصاميمها السخيفة، لقد ازدادت الحاجةُ للوعي بضرورة مَنْع هذه العباءات المخالفة للِّباس العام، والضَّوابط الشرعية، لكن مَن المسؤول، لا سيما أنَّ الأمر فيما نعلم أنه ممنوعٌ تصنيع الملابس النِّسائية، والعباءات المخالفة للضَّوابط الشرعية؟
ولقد تداخل مفهومُ أنَّ العباءة للستر عند المرأة، مع العديد من المفاهيم، حتَّى أصبحت العباءة تستخدم للزِّينة اللافتة للنَّظر والمغرية للشباب، إنَّها مُشكلة تستحق النَّظر في أسبابها، وما هي أبعادها وانعكاساتها السلبيَّة، ومضايقتها للشعور العام.