***
*
يتولد صوت مرتفع بين طوابق المبنى المفتوحة على بعضها البعض.
ثم صيحة رفض تدوي في الآذان ... في أكثر الأماكن " إنسانية " في هذه المدينة التي تعج بأنواع الفنون والتناقضات.
صمت...اختلط علي الأمر.. تساؤلٌ مـُلح. هل كان صوت أنثى؟
همسٌ خافت بين جدران معاصرة وأخرى بالية. قليل من الأحياء وعدد هائل من الأعمال التشكيلية المنتشرة في أروقة
المبني وصالاته, اشعر وأنا انظر لبعضها إني أمام قصيدة نثر سافلة.
في بهو المبنى الواسع هناك القليل من العقول و الكثير من النساء والكذب.
فواصل كثيرة من اللحظات لعبور فائض من التداخلات القصرية.
انتهيت من التجول في المكان.. لدخول أناس أتجنب لقائهم, فضلت الانسحاب والخروج.
استودعت ما املك من أمنيات في فراغ ذلك المبني الأنيق! خرجت إلى هواء المدينة الأسود.
تفقدت ملابسي ...ألم افقد شيء...هل نسيت شيء ؟..سرت باتجاه سُـرة المدينة ـ لعلـَي أتبضع بعض الكتب.
حين بلغت الشارع الكبير لم استطع العبور للطرف المقابل لكي أحظى بمن ينقلني إلى وسط البلد ـ الناس هنا خليط من كل شيء ـ أكوام البشر تربك الخيال أن يفرز الصور الهائلة لكل التفاته. الصوت, الضجيج, أنواع الكلام والروائح الأسفنجية التي تفوح من الأجساد تفصح عن أنواع أخرى من التعب والمرارة وحمى الحياة رغم كثرة الألوان والحدائق المحيطة.
فضلت الانتظار في مكاني والعودة إلى الفندق.
شيء من الفضول ـ لازالت صرخة المرأة محلقة فوق راسي.... ماذا حدث في المبني؟
أحاول تفادي أعداد المارة. يصعب الحصول على تاكسي في مثل هذا الوقت الذي شارف على الثالثة عصرا.. انتظار... لكن لا باس هناك ما ينسيني ضجر الانتظار.. قصة في كل ثانية تمر أمامي. حكاية في كل وجه لمئات المارة, عوالم من المشاعر المختلطة يزخر بها المكان ومن يمر به من البشر . نظرات تتعقبني وأتعقبها مع ابتسامات نصنعها لهدم جدار العزلة من هذا الآخر.
على الرصيف ومن أمام بوابة الحديقة الكبيرة التفت إلى المبني البعيد الذي كنت فيه, رغبة العودة إلى الداخل تنازعني.
من بين عشرات الداخلين للقصر يلوح لي شبح إنسان يسحب حقيبة كبيرة تحجبه التماثيل الفنية المنتشرة هناك.. ثم يظهر مرة أخرى ويغيب خلف أشجار اليوسف والنخيل التي تعج بها حديقة القصر.
اقترب أكثر ـ آه .. إنها سيدة .. قوامها حسن ـ تبدي الكثير من الصرامة والجدية.
ـ اردد في نفسي ـ هل تريد الحصول على تكسي.؟ دون جدوى فأنا انتظر هنا منذ زمن .
الأصوات والازدحام الهائل مرة أخرى.
كلٌ منشغل بحاجته لا أمل في تاكسي في هذا الوقت. السيارات ممتلئة.
على ذات الرصيف اقتربت منها حتى تنبهت لوجودي بجانبها ـ يصعب الالتفات لكل التفاصيل, لكن اعتقد أنها غير مألوفة الشكل بين من عرفته في القصر.
تشغل السيدة نفسها بما هو أهم ـ الحصول على سيارة .
قد يكون لطول للانتظار حسنات ـ شعور غريب يدفعني نحوها, قد أكون لمحتها في القصر, لسـتُ متأكد.
ـ بادرتها بالحديث ... ـ مرحبا.
ـ أهلا...
ـ اعتقد أنها في الثلاثين من العمر ملامحها الأورومتوسطية تدل على جينة أكثر تنوعا وفتنة من نساء هذه المدينة. ومع ذلك فالزمن شروطه في بعض التفاصيل الصغيرة.
اقـتنصت سيارة الأجرة قبل أن ابدأ جملتي الثانية معها.
ـ لو سمحت: أريد فندق السفير, رحب السائق بي.. لكني استأذنته بلحظة.
سرت إليها دون تردد, كانت نظراتها فاحصة تجاهي لمحت بعض معالم الدهشة في وجهها وأنا اقترب منها, كل أملي أن يحوز عرضي على القبول. جانب من هذا العرض نبيل فاصطياد سيارة الأجرة غنيمة في هذا الوقت لكن هذا العرض مغلف بفضول اكبر.
ـ سيدتي أنا ذاهب في هذا الاتجاه يمكن أن نستقل السيارة معا ً؟
ـ شكرا لا تهتم ..
ـ تابعت الحديث .. لي أكثر من نصف ساعة وأنا انتظر, يمكن أن أساعدك في حمل حقيبتك ولك حرية استخدام السيارة بعد أن اصل مكاني.
كن العرض مغري في ذلك الوقت.
ـ مافيه " مـُشكل عـَندك " ـ أبدا ليس لدي مشكلة ـ شكرا .. مرحبا بك.
تتكلم العربية بصعوبة, لكنها أتاحت لنا شيء من التواصل.
الأمر الشائع هناك أن يركب في التاكسي أكثر من شخص لكل ٍ وجهته.
أرى في وجهها الكثير من السخط, لازالت محافظة على صرامة تلك التعابيرـ رغم ذلك هناك قدر هائل من الوسامة والجمال.
ـ هل كنتي في القصـر؟
ـ نعم.
ـ أنت من المشاركات في المعرض ؟ .... نعم
إجاباتها مقتضبة وسريعة .. وكأنها تزجرني أن التفت لشأني.
استرق النظر إليها بطرف خفي ـ اعتقد أن الأمر أصعب عليها من التفكير بالحديث .
نظرتُ إلى كل ما حوالي في تلك السيارة المتهرئة, أبحث عن مدخل جاد لفتح أبواب الحوار.. دون جدوى, السائق يصارع أمواج البشر وكم السخط الذي تسببه أبواق السيارات الغاضبة..
ـ تحركت شفتي دون سابق أعداد لما سأقول.. " القاهرة " مدينة حالمة.
ـ " بل مدينة ساقطة ".
التفت إلى مصدر الجواب الذي طرق رأسي بعنف.
بعد وقت ممل داخل كبينة التاكسي, تكلمت السيدة أخيرا.
ـ ماذا.. لم اسمع ما قلتي؟
ـ ليتني بقيت في بلدي... الناس هنا وحوش .. هذه أول مرة في حياتي ازور القاهرة, مدينة واهمة, لا تحترم الإنسان ولا الفن, يتظاهرون بأنهم حضاريون وطلائعيين لكن الحقيقة أنهم ...!
وكأنها تنتظر فرصة لتلقي هذا العبء من على صدرها.. تلقي أحمال الكلام وكأن لسانها محبوس منذ أسابيع.
رغم شدة انفعالها إلا أن أسلوبها آسِـرٌ في الحديث ولكنتها غريبة.. لهجاتٌ عربية متهالكة على بعض المصطلحات من اللغة الفرنسية التي لا افهمها, لكن أحاول تدارك الموقف بنظري إلى تعابير وجهها. أحاول تحليل ما تود الحديث عنه أكثر من فهم ما تقول.
لم أتدارك كل ما سمعت .. كم الكلمات والغضب الذي صبته السيدة في تلك اللحظة مربك .. لقد تكلمت وتكلمت بالكثير. لكني شعرت بارتياح لاختراق جدار السكوت.. رغم إصغائي الشديد لم أستطع تركيب الجمل السريعة أو الحصول على طرف الحديث الذي قد يعينني على فهم ما تقول.
تسـيدت المكان وكأنها لم تتكلم منذ زمن طويل. وأنا استميت في اللحاق بكل ما تقول. هناك ثقافة جديدة على مسمعي, لم اعهد امرأة تتكلم هكذا, دقيقة في توصيف حديثها بالكثير من المصطلحات الغربية.. لكنها بعيدة عن الإفصاح عن مشكلتها.
تتزايد تساؤلاتي.. ماذا تود أن تقول هذه المرأة..؟ أخشى أن تكون هي التي أطلقت تلك الصيحة في قصر الفنون؟ ..
ارغب في حك راسي والتبسم... الأمر بدأ مرهق ومضحك في نفس الوقت!
يقاطع السائق كلام السيدة .. "عايز فندق السفير اللي في الزمالك ـ يابيه ".. نعم.
بنبرة صوت بها بعض الدهشة ـ قالت: أنت تقيم في فندق السفير؟ نعم.. إذا أنتَ من المشاركين في العرض؟
ـ لا.. أنا مهتم بالفن فقط ...وأحب حضور هذه التظاهرات.
ـ وأنتِ ؟
ـ أنا فنانة.. كما أني محاضِـرة ومشاركة بورقة عمل على هامش ندوات المعرض. "وأقيم أيضا في فندق السفــير"
شعور من السعادة يغمرني, لم اعرف مصدره, لكن اعتقد أن هذه السيدة تملك كنز من الثقافة والمعارف يهمني الاستفادة منه.
أبديتُ لها تعجبي من أمر الصدفة الرائعة.
في الوقت الذي ساد فيه صمت غريب بعد كم الكلام الذي تناثر في كل مكان.. فضلت السيدة النظر إلى خارج السيارة وغابت بشكل كامل عن كل ما يحدث من حوار بيني وبين السائق, حتى أنها لم تستجب لرغبتي في فتح باب الحوار معها مجدد.
حين صلنا الفندق..
قام السائق بمساعدة موظف الفندق في حمل الحقيقة الكبيرة إلى خارج السيارة.
لم أكن لأترك الفرصة دون موعد يمكن أن يجمعني بهذه السيدة.
ـ سيدتي: هناك مطعم للبيتزا قريب من هنا. هل تودين تناول شيء ما... منذ الصباح لم أتناول شيء سوى الماء.
ترددت في قبول الدعوة وكأنها تستنكر هذه الجراءة من رجل مجهول كل ما فعه أن أوقف سيارة أجرة.
تبسمت بخجل.. لا حاجة لي أن أكل ألان. .شكرا.
ـ لكن هذا المحل نظيف.. أنا أكل فيه منذ عدة أيام وهو من سلسلة مطاعم عالمية, تستطيعين أن تحصلي على قدر كبير من النظافة والطعم الجيد.. أرجوا أن تعتبرى هذه دعوة كريمة.
مرة أخرى, تنظر لي بعناية وكأنها تتمنى أن اتركها وشأنها.
أبديتُ جدية كبيرة في موضوع الدعوة. لا بس .. شيء من الضغط النفسي يمكن أن يكون له نتيجة مقبولة.. وربما يكون للجميل الذي فعلته معها اثر في قبول الدعوة, رغم عدم تخطيطي المسبق لذلك.
ـ حسنا. سوف اصعد إلى غرفتي لأضع حقيبتي هذه , واخذ قسط من الراحة ثم نلتقي بعد ساعة من ألان.
[aldl]http://www9.0zz0.com/2010/11/12/13/210959412.jpg[/aldl]
هذا جيد... سوف أكون بانتظاركِ.