رد: ذهـول الحقـائق
مررت بحوادث ووفيات كثيرة، لكن لأول مرة يهجم علي الإحساس بقرب الموت ودنو الأجل بمثل هذه الصورة..
لما كنت في منزل ذويه والمعزون يقدمون عليهم كنت أطالع وجوه الناس، وأنظر لنفسي بينهم وأقول: كلنا قدمنا للعزاء،
وغالبنا يظن أن المصيبة مصيبة غيره، وننسى أن هناك ساعة سجلت لكل واحد منا سيغادر فيها هذه الحياة، وسيغسل، ويوضع في كفنه، ويوسد لحده، وتصف اللبنات فوقه، ويهال عليه التراب، وينصرف الناس عنه..
من الناس من سيموت في هذا الشهر، ومنا من سيموت قبيل رمضان هذا العام ولن يدركه، ومنا من سيدرك سنةً أو سنتين أو مازاد على ذلك..
ولكنها النهاية المحتومة.. ساعةٌ مكتوبةٌ قريبةٌ منا سنغادر فيها هذه الحياة..
هذا الساعة التي تم تحديدها قبل أن تخلق السموات والأرض،
وكتبها الملائكة الكرام حين كان الإنسان جنيناً عمره أربعة أشهر،
نحن نسير إليها الآن بالعد التناقصي، فإذا كان العام الماضي يفصلنا عنها ثلاث سنين، فاليوم يفصلنا عنها سنتان، وهكذا نحن نقترب كل دقيقة من هذه اللحظة الحاسمة للانتقال للدار الآخرة..
هذه الحقيقة الكبرى كيف غفلت عنها طوال هذه السنوات؟
وكيف يغفل كثير من الناس عنها؟
الكثير من الناس يعرف هذه الحقيقة معرفة نظرية عقلية بحتة، لكنه لم يعشها يقيناً قلبياً غامراً يستحوذ على تفكيره..
ومن أعاجيب النفوس، وما يمور فيها من الأحاسيس؛ أن بعض الناس يكره ذكر الموت، ويدور في مشاعره الخفية أنه حين يتحاشى ذكره فإنه يبتعد عنه، وحين يذكره يكون قريباً منه، ويتكلف الأسباب المشروعة وغير المشروعة في مدافعة الموت يظن أنه سيؤجل يومه المكتوب؛ وهذا (الفرار النفسي) من الموت صوره القرآن تصويراً تبكيتياً حين قال تعالى:
(قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجمعة، 8]
و هَبْ أنك فررت،
وافترض أن خطراً من الأخطار سلمت منه؛
فحتى ما ستعيشه بعد ذلك سيظل فترة زمنية محدودة، يقول تعالى:
(قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلا)[الأحزاب، 16].
فحتى لو سلمت من خطر معين، فسيظل المتاع قليل، وسيأتي خطر لن تفر منه..
وصوّر القرآن معنى آخر قريباً من الفرار، وهو التحايد، فالفرار ابتعاد عن موضع الخطر، والتحايد أشبه بمحاولة التحاشي عن سهام الموت، يقول تعالى:
(وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) [ق،19].
فلن ينفع الفرار، ولن ينفع التحايد.. وستأتي قريباً ساعة الانتقال للدار الأبدية..
يتبع>>>
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
|