الموضوع: ذهـول الحقـائق
عرض مشاركة واحدة
قديم 07-01-2011, 03:13 PM   #5
السلطانة
عضو متميز
 
الصورة الرمزية السلطانة
 







 
السلطانة will become famous soon enough
افتراضي رد: ذهـول الحقـائق

وأخبرنا كتاب الله عن فئام من الناس حين يحضرهم الموت يعلنون التوبة ويستغفرون الله، ولكن هل هذا هو وقت التوبة والاستغفار؟
يقول تعالى:
(وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)[النساء، 18]
لازلنا الآن في الساعات الأخيرة التي تسبق إغلاق باب التوبة، والتوبة إلى الله تحتاج قراراً فورياً عاجلاً، قرار لا يحتمل التأجيل ثانية واحدة، قرار يجب أن يدشن الآن، قبل أن تفوت الفرصة..

هذه المشاهد الثلاث التي ذكرها القرآن عن أحوال المحتضرين، وأمنياتهم، من أشد المشاهد زلزلة لمشاعر المؤمن الموقن بلحظة الموت وقربها..
وخصوصاً إذا وضع نفسه في هذه المشاهد، فتخيل كيف لو كان هو نفسه يسأل الله عند الاحتضار أن يعود للدنيا ليعمل صالحاً، أو يسأل الله أن يعود للدنيا ليتصدق ويكون من الصالحين، أو يسأل الله عند الاحتضار أن يتوب عليه ويغفر له،
وفي كل هذه الأمنيات يواجه بالرفض لأنها دعوات تجاوزت الموعد النهائي للقبول، وقد كان يمكنه ذلك لو بادر قبل هذه اللحظة..

والواقع المشاهد اليوم أن من أكثر ما ينسج حول العيون حجاب الغفلة التنافس الاجتماعي على الدنيا، فالمرء منذ أن يُستجر إلى (دوامة المباهاة) فإنه لا يكاد يفيق منها إلا على أعتاب القبر،
والناس اليوم كأفراس رهان على المناصب والمساكن والسيارات والملابس،
لا يكاد أحدنا يلتقط أنفاسه من هذه المنافسات الاجتماعية على حطام الدنيا، وقد نبه القرآن على هذا المعنى الواسع بأوجز عبارة وأبلغ صياغة،
بالله عليك تأمل قوله تعالى:
(أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ** حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) [التكاثر، 2]
أرأيت أين تنتهي حفلة التكاثر هذه؟ تنتهي عند أول ليلة في القبر
وحينها يكتشف أحدنا أنه ضيع حياته المستقبلية الحقيقية، ولكن بعد ماذا؟ بعد فوات الزمن المحدد من الله جل وعلا..

وهذا التكاثر الذي تحدثت عنه سورة التكاثر؛ جاء في آية أخرى في سورة الحديد، حيث يقول تعالى:
(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ، وَلَهْوٌ، وَزِينَةٌ، وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ، وَتَكَاثُرٌ فِي الأموَالِ وَالأَوْلاد) [الحديد، 20]


وإذا وفق الله الإنسان أن ينخلع من ملاحظة ما يكتسبه الخلق،
ويتزاحمون عليه، والتحرق على المنافسة فيه، من مناصب ومساكن وسيارات،
وأقبل على ما هو أعظم من ذلك وهو صناعة المستقبل الأبدي وعمارة النفس بالله، فإنه سيكتشف للحياة معنى آخر، معنى أسمى من الحطام الصغير المؤقت..

كلما رأيت نفسي في غفلة، وكلما رأيت نفسي وقد ذهلت عني الحقائق الكبرى؛ قلت في نفسي: فتش عن (دوامة التكاثر) ..

ولا أعرف مفهوماً عقلياً لا يكاد المرء حين يتأمله أن يطيق آثاره الإيمانية مثل المقارنة بين (أبدية الحياة الآخرة) و (تأقيت الحياة الدنيا)، مقارنة التأقيت بالأبدية تجعل الدنيا رقماً مهملاً لا يستحق الذكر أصلاً، الأبدية ليست مائة سنة، ولا ألف سنة، ولا مليون، ولا مليار، ولكنه أبد الآبدين بلا نهاية، من يستطيع أن يتصور؟! ثم قارن ذلك بالدنيا التي لا تتجاوز سنيات معدودة، مجرد التأمل في مفهوم (الأبدية) يكاد أن يصل بالنفس إلى أعظم مراتب العزم..

تأمل معي هذا المثال: لو قيل لشخص من الناس إنك ستجلس في هذا البلد الذي أنت فيه خمس سنين، ثم سننقلك إلى بلد مجاور وستعيش فيه مائة سنة، فماذا ترى هذا الرجل صانعاً؟
لا شك أنه سيحول كل ممتلكاته وأمواله وأرصدته إلى البلد الثاني الذي سيعيش فيه الزمن الأطول،
وسيقتصد في الصرف في بلده الأول قدر الطاقة، ويتبلغ بالكفاف، لأنه ينتظر الحياة المستقرة في البلد الثاني الذي سينتقل إليه،
إذا كان هذا في المقارنة بين منزلين أحدهما خمس سنين،
والآخر مائة سنة، فكيف بالله عليك سيكون التصرف حين المقارنة بين منزل مؤقت ومنزل مؤبد لا ينتهي أصلاً؟! ثم ليس الأمر مؤبد فقط،
بل قد يكون مؤبداً بأعلى درجات السعادة في قصور الجنة ونعيمها،
أو مؤبد في أحط درجات الآلام الجسدية والنفسية في أودية النهار ولهيبها.. كل ذلك أبد الآبدين.. وماذا بعد مفهوم (الأبدية) من واعظ؟!

وكنت ألاحظ في كثير من كتب الفكر المعاصر،
خصوصاً الكتب الفكرية غير الإسلامية؛ أنها تكاد تخلو من ذكر الموت والدار الآخرة، ويعدون ذلك شأناً غير رفيع، فذكرت هذه الملاحظة لأحد الشباب الذين يقرؤون في هذه الكتب، فقال لي: إن هذا تصرف له ما يبرره، فقلت له: وما الذي يبرره؟ فقال لي: (إن استحضار الموت واليوم الآخر يصرف الإنسان عن بناء الحضارة والنهضة،
فيجب أن نؤمن بالموت واليوم الآخر، ثم نحيّده حتى نستطيع أن نبني الحضارة والنهضة بعيداً عن الضغط النفسي لفكرة الموت واليوم الآخر) هذا ملخص كلامه، بعضه بعبارته وبعضه بمعناه.
يتبع>>>

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التوقيع
أخر مواضيعي
السلطانة غير متواجد حالياً