رد: ذهـول الحقـائق
والحقيقة أن هذا فهم مغلوط كلياً،
ولا يقول هذا الكلام رجل قرأ كتاب الله وأيقن صدقاً بمعانيه، فإن استحضار الموت واليوم الآخر هو الذي يدفع فعلاً للعمل الصالح النافع المثمر طبقاً لمراد الله،
فإن الله تعالى لما ذكر الصلاة، وهي رأس العبادات، ذكر أنه لا يطيقها إلا من يوقن بالموت ولقاء الله، كما قال تعالى عن الصلاة:
(وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ ** الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)[البقرة، 46].
فانظر كيف كانت الصلاة هينة ميسرة لمن امتلأ قلبه باليقين بلقاء الله..
ولما ذكر الله تخاذل جنود طالوت، بين أنه لم يقف ويثبت معه إلا من امتلأت قلوبهم باليقين بلقاء الله،
كما قال تعالى:
(فلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ، قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)[البقرة، 249]
فانظر كيف لم يصبر في مقام الجهاد، إلا من عمرت نفوسهم بحقيقة الموت واليوم الآخر..
وترى أمثال هؤلاء المفكرين التغريبيين –أو من أصابتهم بعض شُعب التغريب- يتندرون بمن يكثر من ذكر الموت،
ويسميها بعضهم (عقيدة انتظار الموت) على سبيل الاستهانة والانتقاص، بالرغم من أن انتظار الموت شعبة من شعب الإيمان في كتاب الله كما قال تعالى:
(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ، وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا) [الأحزاب، 23]
وامتلاء القلب باليقين بقرب الأجل والحساب نبه عليه القرآن في قوله تعالى:
(أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) [الأعراف، 185]
وأعاد ذات المعنى في مطلع الأنبياء فقال تعالى:
(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) [الأنبياء، 1]
وقد كان أئمة الأولياء في هذه الأمة يستحضرون دوماً قرب الأجل ودنو الموت،
فهذا رأس أولياء هذه الأمة ابوبكر الصديق –رضوان الله عليه- يستحضر هذا المعنى كثيراً، فقد روى البخاري في صحيحه قصة مؤثرة عن أبي بكر،
حيث جاء في البخاري:
(لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة وُعِك أبو بكر وبلال، فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول: كل امرئ مصبح في أهله** والموت أدنى من شراك نعله) [البخاري، 1889]
والمراد أنه ليست الإشكالية في أن يستحوذ على القلب والعقل اليقين بقرب الأجل والحساب،
فهذه شعبة إيمانية قرآنية عظيمة، وإنما المشكلة تعطيل العمل والفتور عن الدعوة والإصلاح..
وقد أوضح كتاب الله أن اليقين بلقاء الله يدفع للمزيد من العمل ويمنح المؤمن القوة والصبر، لا العكس كما يتوهم كثير من التغريبيين، أو من أصابتهم بعض شُعب التغريب..
والحقيقة أن استحضار الحقائق الكبرى كالموت ولقاء الله،
وتمزيق ضباب الذهول الذي يلفها؛ يثمر للمرء تصحيحاً هائلاً في مسيرته العلمية والدعوية والاجتماعية،
ويغير جذرياً من نظرته لكثير من الأمور، فيصبح يقرأ الأشياء على ضوء سؤال: هل تقرب من الله وتنفع في اليوم الآخر أم لا؟
ومن أعظم ذلك القلق حول طبيعة قضاء الوقت والعمر،
فالإنسان الغافل عن ذكر الموت تمر أوقاته وساعاته دون أن يتنبه ويتساءل حول جدوى ما يصنع،
لكن المؤمن الذي يهجم عليه ذكر الموت ودنو الأجل وقرب لقاء الله؛
فإنك تجده يزهد في اللقاءات والاجتماعات في استراحات الضياع التي تذهب فيها الأوقات سدى،
وتتعالى فيها القهقهات، ويجوب الناس فيها أحاديث لا تقرب من الله إن لم تكن تبعد عنه، حتى وإن كان ظاهر الجالسين الصلاح أو طلب العلم، فالعبرة بالحقائق،
وما أكثر ما تكون المجالس في غير ما يقرب من الله..
المؤمن المستحضر لحقيقة الموت ودنو الأجل يبخل بوقته أن يذهب في روايات تلو روايات، وأفلام سينمائية في إثر بعضها،
وتتبع لتعليقات وترهات على صفحات المواقع الاجتماعية كالفيسبوك وتويتر، أو منتديات الانترنت..
طالب العلم الجاد الذي تشبع بحقيقة الموت تختلف نظرته للمؤلفات والكتب،
ويدب إليه الزهد في الترف النظري،
ويصبح مقصوده في الكتب (معرفة الهدى بدليله) ويضمر شغفه بملح العلم ونكته ولطائفه الجانبية،
وتصبح في مرتبة تبعية غير مقصودة بالأصالة، وإنما مقصوده الأصلي معرفة معاني كلام الله ورسوله وبثها في الناس..
والمجاهد الذي يجاهد التيارات البدعية والفكرية المنحرفة إذا تشبع قلبه بحقيقة الموت وقرب الحساب، صار يقتصد في ذكر الناس إلا بقدر ما يبين الحق ويظهره، وما أحسن العبارة المنقولة عن الإمام الحافظ عبدالله بن عون شيخ شعبة وابن المبارك، أنه قال (ذكر الناس داء، وذكر الله دواء) [النبلاء، 11/448].
والمؤمن الذي امتلأ قلبه باليقين بلحظة القبر،
يتحرق على أوقات الانتظار والمسير والجلوس العابر أن تذهب في غير ذكر الله،
وأي جمال وبهاء لحالة الذاكر لله واقفاً وجالساً ومضطجعاً والتي يصفها كتاب الله في قوله تعالى:
(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) [آل عمران، 191]
بل تأمل ماهو أعجب من ذلك، وهو أن الله يأمر بالصلاة التي كلها أذكار،
ثم بعد الصلاة يأمر باستمرار الذكر على هذه الأحوال، فيقول تعالى:
(فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ)[النساء،103]
بالله عليك خذ هذا المثال العابر: تأمل هذه الساعات التي فاتت من ظهر اليوم،
أو من عصر اليوم، هذه الساعات التي فاتت، ذهبت علي وعليك،
هذه الساعات سلخت من أعمارنا ولن تعود أبداً، فإن كنا عمرناها بتسبيح أو تحميد أو تكبير أو سجدة أو نفع للمسلمين فإنها ستكون شاهدة غداً في صحائفنا،
وإن ذهبت هذه الساعات من ظهر أو عصر اليوم سدى، فيا حسرتنا ويا غبننا في فرصة أعطيت لنا ثم سحبت ولم نستغلها..
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
(وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ** أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) [الزمر، 56].
والله أعلم،،
ابراهيم السكران
ابوعمر
ختام شهر الله المحرم 1432هـ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
|