الخطيئة
قرأت لأحد المشرفين التربويين في مذكراته المدونة على موقعه الإلكتروني موقفا أدمى قلبي وأدمع عيني حيث يقول : (( كنت في زيارة إحدى المدارس التي تتميز بالنشاط والحيوية , جرني مدير المدرسة في حديث طويل يذكر شيئا مما يسعى في تحقيقه لهذه المدرسة , قال لي : لدي مفاجأة لك متأكد أنك ستكون سعيدا برؤيتها , طلب مني مرافقته لزيارة الصف الرابع , دخلنا الفصل , المعلم يجلس في الصف الأخير, رحب بنا ثم عاد إلى كرسيه , جلست ومدير المدرسة في الصف الأخير , أعطى المعلم إشارة البدء لأحد الطلاب , قام الطالب ليشرح درسه , بدأ بمقدمة مثيرة أعقبه باستهلال أكثر إثارة , بعدها قام يعرض درسه بأسلوب أخاذ , أشرك من حوله من الطلاب مراعيا أن تعم المشاركة جميع الطلاب , أبهرني صوته الذي يفيض ثقة وقوة , فهمه للموضوع الذي يطرحه كان موطن إعجاب مني ومن مدير المدرسة , الطريف أنه بعد أن انتهى من درسه بدأ يشجع الطلاب على الأسئلة حول ماشرحه , أخذ في استقبال الأسئلة والرد عليها , وكان رده مقنعا في كثير منها , الذي زادني انبهارا هو تفصيله الممتع في الرد على الأسئلة وكذا لغة جسده المعبرة والتي تنطق بها عيناه , لم أترك الفرصة عرضت على مدير المدرسة أن نستفيد منه معلما للصفوف الأولية , تبسم المدير , سألت الصغير عن عمره , قال إنه في العاشرة ,ارتجلت كلمة شكرت فيها الطالب المبدع وثنيت بالشكر لمعلمه الذي كان خلف هذا الإبداع , وثلثت بشكر مدير المدرسة الذي يسعى دائما في إبراز مواهب الطلاب وصقل مهاراتهم , خرجنا من الفصل , قال لي المدير: تعرف ياأستاذ أن هذا الطالب من أكبر المشاغبين في المدرسة , لقد كان شغلي الشاغل أنا و وكيل المدرسة , لا يمر يوم إلا ولنا معه قصة , مرة يضرب هذا ومرة يصفع ذاك ومرة ينسى أدواته ...حتى فكرت في أمر , وهو لم لا نستفيد من طاقته الكبيرة والتي يستخدمها للإيذاء والتخريب , فكرت أن أسند إليه بعض الأدوار القيادية في المدرسة , طلبت من المعلمين أن يكلفوه بأعمال تتصف بالقيادة مثل أن يكون عريفا للفصل , أن يكون مسئولا عن النظام في الفسحة , مازال المدير يواصل حديثه قال : تحول هذا الطالب المشاغب إلى طالب مسالم لا أبالغ لو قلت لك أنه يقوم بأدوار إيجابية في المدرسة تفوق بعض الأدوار التي يقوم بها بعض المعلمين , قلت : وكيف أصبح مستواه الدراسي ؟ قال : تحول من طالب ضعيف إلى طالب ينافس على المركز الأول على الصف , قلت : كيف كان أثر تغيره على والديه ؟ تلكأ وتردد ثم قال : ليس له والدان معروفان , قلت : كيف ؟ قال : لا نعرف له أما ولا أبا , قلت : يتيم , قال : أشد بؤسا من اليتم , قلت : نتاج خطيئة , قال : نعم , استرجعت كل الأحداث القريبة ... ملامحه , صوته , ثقته بنفسه , فرحته بالقيادة , تفوقه وتميزه , ابتهاجه بثنائي عليه , لاح أمام ناظري وجهه الذي يفيض عذوبة وبراءة , عاودتني نبرة صوته الطفولي , تدافعت لذاكرتي أسئلته وتساؤلاته , ودعت المدير سريعا فأنا أضعف ما أكون في مثل هذه المواقف , ركبت سيارتي , وفي الطريق تملكتني مشاعر وأحاسيس تزلزل الصخر الأصم , كأني به يرى لكل زملائه أب وأم وليس له , كأني به يرى في عيون الناس شيئا يعجز عن فهمه , كأني به يفجع يوما من الأيام بما يزلزل نفسه وكيانه , كأني بطفولته عاجزة عن تفسير الألغاز التي تحيط به ,
ما أبشع تلك النزوة التي ذهبت سريعا لكنها تركت حطاما في صورة إنسان !!
ما أبشع تلك الشهوة التي دمرت إنسانا كتب عليه أن يعيش بائسا
ما أبشع الحياة عندما يكون الإنسان ثمرة لعلاقة آثمة
ما أبشع الحياة عندما يفر الإنسان من نفسه
بقي هذا الموقف في ذاكرتي طويلا كلما سعيت في دفعه ونسيانه تجدد لي كأنه البارحة حتى صرفتني الحياة ومشاغلها عنه حتى جاء ذلك اليوم الذي أتصفح فيه صحيفة من الصحف فإذا هو لقاء مع بعضهم , هزني فيه كلام أحدهم عندما قال : لن أعفو عن حقي , ولن أصفح , سأقف بين يدي الله عزوجل أطلب خصومتي من ذلك الرجل وتلك المرأة لا سامحهما الله , لو يعلمان ماذا فعلا بي !!! , عاد بي شريط الذكريات مع ذلك المعلم الصغير فعاودني الحزن وكساني وأنا أردد في نفسي , هل سيسامح من كان سببا في بؤسه وشقائه ؟؟؟ ))
فكم من طالب وطالبة كانواضحية ظروفهم السيئة التي لاذنب لهم فيها سواء كانوا أبناءً شرعيين أو ثمرة خطيئة ولم يجدوا من يتفهم نفسياتهم ويراعي ظروفهم ويعاملهم بما يتناسب مع ظروفهم ويلائم شخصياتهم ويقوم سلوكهم بحنان وعطف أبوي ، كم من طالب وطالبة هدم كيانهم النفسي تصرف غير واع لمعلم أو معلمة نتيجة سلوك غير مرغوب لم تتم معالجته بطريقة تربوية محببة ؟.