رد: صور ودروس من حياة الصحابة متجدد
أبو ذر الغفاري
الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه
[ يرحم الله أبا ذر.. يمشي وحده.. ويموت وحده.. ويبعث وحده..].
وقال له هذا الحديث رسول الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم
في غزوة تبوك.. سنة تسع من الهجرة, وقد أمر الرسول عليه السلام بالتهيؤ لملاقاة الروم,
الذين شرعوا يكيدون للإسلام ويأتمرون به.
وكانت الأيام التي دعى فيها الناس للجهاد أيام عسر وقيظ..
وكانت الشقة بعيدة.. والعدو مخيفا..
ولقد تقاعس عن الخروج نفر من المسلمين, تعللوا بشتى المعاذير..
وخرج الرسول وصحبه.. وكلما أمعنوا في السير ازدادوا جهدا ومشقة,
فجعل الرجل يتخلف, ويقولون يا رسول الله تخلف فلان, فيقول:
" دعوه.فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم..
وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه"..!!
وتلفت القوم ذات مرة, فلم يجدوا أبا ذر..
وقالوا للرسول عليه الصلاة والسلام:
لقد تخلف أبو ذر, وأبطأ به بعيره..
وأعاد الرسول مقالته الأولى..
كان بعير أبي ذر قد ضعف تحت وطأة الجوع والظمأ والحر وتعثرت من الإعياء خطاه..
وحاول أبو ذر أن يدفعه للسير الحثيث بكل حيلة وجهد, ولكن الإعياء كان يلقي ثقله على البعير..
ورأى أبو ذر أنه بهذا سيتخلف عن المسلمين وينقطع دونهم الأثر, فنزل من فوق ظهر البعير,
وأخذ متاعه وحمله على ظهره ومضى ماشيا على قدميه, مهرولا, وسط صحراء ملتهبة,
كي يدرك رسوله عليه السلام وصحبه..
وفي الغداة, وقد وضع المسلمون رحالهم ليستريحوا, بصر أحدهم
فرأى سحابة من النقع والغبار تخفي وراءها شبح رجل يغذ السير..
وقال الذي رأى: يا رسول الله, هذا رجل يمشي على الطريق وحده..
وقال الرسول عليه الصلاة والسلام:
(كن أبا ذر)..
وعادوا لما كانوا فيه من حديث, ريثما يقطع القادم المسافة التي تفصله عنهم,
وعندها يعرفون من هو..
وأخذ المسافر الجليل يقترب منهم رويدا.. يقتلع خطاه من الرمل المتلظي اقتلاعا,
وحمله فوق ظهره بتؤدة.. ولكنه مغتبط فرحان لأنه أردك القافلة المباركة,
ولم يتخلف عن رسول الله وإخوانه المجاهدين..
وحين بلغ أول القافلة, صاح صائهحم: يارسول الله: انه والله أبا ذر..
وسار أبو ذر صوب الرسول.
ولم يكد صلى الله عليه وسلم يراه حتى تألقت على وجهه ابتسامة حانية واسية, وقال:
[يرحم الله أبا ذر..
يمشي وحده..
ويموت وحده..
ويبعث وحده..].
وبعد مضي عشرين عاما على هذا اليوم أو تزيد, مات أبو ذر وحيدا,
في فلاة الربذة.. بعد أن سار حياته كلها وحيدا على طريق لم يتألق فوقه سواه..
ولقد بعث في التاريخ وحيدا في عظمة زهده, وبطولة صموده..
ولسوف يبعث عند الله وحيدا كذلك؛ لأن زحام فضائله المتعددة, لن يترك بجانبه مكانا لأحد سواه..!!!
أبو ذر يعاني سكرات الموت في الربذة.. المكان الذي اختار الإقامة فيه
فتعالوا بنا إليه نؤد للراحل العظيم تحية الوداع, ونبصر في حياته الباهرة مشهد الختام.
ان هذه السيدة السمراء الضامرة, الجالسة إلى جواره تبكي, هي زوجته..
وانه ليسألها: فيم البكاء والموت حق..؟
فتجيبه بأنها تبكي: " لأنك تموت, وليس عندي ثوب يسعك كفنا"..!!
".. لا تبكي, فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم
وأنا عنده في نفر من أصحابه يقول: ليموتنّ رجل منكم بفلاة من الأرض,
تشهده عصابة من المؤمنين.. وكل من كان معي في ذلك المجلس مات في جماعة وقرية,
ولم يبق منهم غيري .. وهاأنذا بالفلاة أموت, فراقبي الطريق,,
فستطلع علينا عصابة من المؤمنين, فاني والله ما كذبت ولا كذبت".
وفاضت روحه إلى الله..
ولقد صدق..
فهذه القافلة التي تغذ السير في الصحراء, تؤلف جماعة من المؤمنين,
وعلى رأسهم عبدالله بن مسعود صاحب رسول الله.
وان ابن مسعود ليبصر المشهد قبل أن يبلغه..
مشهد جسد ممتد يبدو كأنه جثمان ميّت, وإلى جواره سيدة وغلام يبكيان..
ويلوي زمام دابته والركب معه صوب المشهد, ولا يكاد يلقي نظرة على الجثمان,
حتى تقع عيناه على وجه صاحبه وأخيه في الله والإسلام أبي ذر.
وتفيض عيناه بالدمع, ويقف على جثمانه الطاهر يقول:" صدق رسول الله.. نمشي وحدك, وتموت وحدك, وتبعث وحدك".!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
|