رد: لإبن تيميه : مسألة الرجل يمس المرأة هل ينقض الوضوء أم لا ؟
وَمَسُّهُ امرأةً بشهوةٍ ..........
قوله: « ومسُّه امرأةً بشهوة » ، هذا هو النَّاقض الخامس من نواقض الوُضُوء.
والضَّمير في قوله: «ومسُّه» يعود على الرَّجُل، أي: مسُّ الرَّجل امرأة بشهوة؛ وظاهره العموم وأنه لا فرق بين الصغير والكبير، والعاقل والمجنون، والحرِّ والعبد.
ولم يقيِّد المؤلِّف المسَّ بكونه بالكَفِّ فيكون عامًّا، فإِذا مسَّها بأيِّ موضع من جسمه بشهوة انتقض وضُوءُه.
والباء في قوله: «بشهوةٍ» للمصاحبة، أي: مصحوباً بالشَّهوة.
وبعضُهم يعبِّر بقوله: «لشهوة» باللام، فتكون للتعليل[(521)]، أي مسًّا تحملُ عليه الشَّهوةُ.
وقوله: «امرأة» المرأة هي البالغة، ولكن البلوغ هنا ليس بشرط، لكن قيَّده بعضُ العلماء ببلوغ سبع سنين، سواءٌ من اللامس أم الملموس[(522)].
وفيه نظر؛ لأن الغالب فيمن كان له سبع سنوات أنَّه لا يدري عن هذه الأمور شيئاً؛
ولهذا قيَّده بعضُ العلماء بمن يطأ مثله. ومن تُوطأ مثلها، أي: تشتهي[(523)].
والذي يطأ مثله من الرجال هو من له عشر سنوات، والتي تُوطأ مثلُها من النِّساء هي من تم لها تسعُ سنوات، فعلى هذا يكون الحُكم معلَّقاً بمن هو محلُّ الشَّهوة، وهذا أصحُّ؛ لأنَّ الحُكم إِذا عُلِّق على وصف فلا بُدَّ أن يوجد محلٌّ قابلٌ لهذا الوصف.
واختلف أهل العلم في هذا النَّاقض على أقوال:
القول الأول: ـ وهو المذهبُ ـ أن مسَّ المرأة بشهوة ينقض الوُضُوء[(524)].
واستدلُّوا:
بقوله تعالى: {{أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ}} [المائدة: 6] وفي قراءة سَبعيَّة: «أَوْ لَمَسْتُمُ النِّسَاءَ»[(525)]. والمسُّ واللمس معناهما واحد، وهو الجسُّ باليد أو بغيرها، فيكون مسُّ المرأة ناقضاً للوُضُوء.
فإن قيل الآية ليس فيها قيدُ الشَّهوة، إذ لم يقل الله «أو لامستم النساء بشهوة »،
فالجواب: أن مظنَّةَ الحدث هو لمس بشهوة، فوجب حمل الآية عليها، ويؤيد ذلك أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم كان يُصلِّي من الليل، وكانت عائشةُ رضي الله عنها تمدُّ رجليها بين يديه، فإِذا أراد السُّجود غمزها فكفّتْ رجليها[(526)]، ولو كان مجردُ اللَّمس ناقضاً لانتقض وضوءُ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم واستأنفَ الصَّلاة.
ولأن إيجابَ الوُضُوء بمجرد المسِّ فيه مشقَّةٌ عظيمة، إذ قلَّ من يسلمُ منه، ولا سيَّما إِذا كان الإِنسان عنده أمٌّ كبيرةٌ، أو ابنةٌ عمياء وأمسك بأيديهما للإِعانة أو الدِّلالة. وما كان فيه حرج ومشقَّةٌ فإِنه منفيٌّ شرعاً.
القول الثَّاني: أنه ينقضُ مطلقاً، ولو بغير شهوة، أو قصد[(527)].
واستدلُّوا: بعموم الآية.
وأجابوا عن حديث عائشة: بأنه يحتمل أن الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم كان يمسُّها بظُفره، والظُّفر في حكم المنفصل، أو بحائل، والدَّليل إِذا دخله الاحتمال بطل الاستدلال به، وفي هذا الجواب نَظَر، وهذا ليس بصريح.
القول الثَّالث: أنه لا ينقض مسُّ المرأة مطلقاً، ولو الفرج بالفرج، ولو بشهوة (527) .
واستدلُّوا:
1- حديث عائشةَ أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَبَّلَ بعضَ نسائه، ثم خرج إلى الصَّلاة، ولم يتوضَّأ[(528)]، حَدَّثت به ابن اختها عروةَ بن الزبير فقال: ما أظنُّ المرأةَ إِلا أنت، فضحكت.
وهذا حديثٌ صحيح، وله شواهدُ متعدِّدةٌ، وهذا دليلٌ إيجابي، وكون التَّقبيل بغير شهوة بعيدٌ جداً.
2- أنَّ الأصل عدم النَّقض حتى يقومَ دليلٌ صحيح صريحٌ على النَّقض.
3- أن الطَّهارة ثبتت بمقتضى دليل شرعي، وما ثبت بمقتضى دليل شرعيٍّ، فإنه لا يمكن رفعه إلا بدليل شرعي، ولا دليل على ذلك وهذا دليل سلبيٌّ.
وأجابوا عن الآية بأن المُراد بالملامسة الجماع لما يلي:
1- أن ذلك صحَّ عن ابن عباس[(529)] رضي الله عنهما، الذي دعا له النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم أن يعلِّمه الله التأويل[(530)]، وهو أولى من يُؤخذ قوله في التفسير إلا أن يعارضه من هو أرجح منه.
2- أنَّ في الآية دليلاً على ذلك حيث قُسِّمت الطَّهارةُ إلى أصليَّة وبدل، وصُغرى وكُبرى، وبُيِّنَت أسباب كلٍّ من الصُّغرى والكُبرى في حالتي الأصل والبدل، وبيان ذلك أن الله تعالى قال: {{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}} [المائدة: 6] ، فهذه طهارة بالماء أصليَّة صُغرى.
ثم قال: {{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}}، وهذه طهارة بالماء أصليَّة كُبرى.
ثم قال: {{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}}، فقوله: «فتيمَّمُوا» هذا البدل،
وقوله: {{أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ}} هذا بيانُ سبب الصُّغرى، وقوله: {{أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ}} هذا بيان سبب الكُبرى.
ولو حملناه على المسِّ الذي هو الجسُّ باليد، لكانت الآية الكريمة ذكر الله فيها سببين للطهارة الصُّغرى، وسكت الله عن سبب الطَّهارة الكُبرى مع أنَّه قال: {{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}}، وهذا خلاف البلاغة القرآنية.
وعليه؛ فتكون الآية دالة على أن المُراد بقوله: {{أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ}} أي: «جامعتم»، ليكون الله تعالى ذكر السَّببين الموجبين للطَّهارة، السَّببَ الأكبر، والسَّبب الأصغَر، والطَّهارتين الصُّغرى في الأعضاء الأربعة، والكُبرى في جميع البدن، والبدُل الذي هو طهارةُ التيمُّم في عضوين فقط؛ لأنَّه يتساوى فيها الطَّهارة الكُبرى والصغرى.
فالرَّاجح: أن مسَّ المرأة، لا ينقضُ الوُضُوءَ مطلقاً إِلا إِذا خرج منه شيءٌ فيكون النَّقضُ بذلك الخارج.
قوله: «أو تمسُّه بها» ، ضمير المفعول في «تمسُّه» يعود على الرَّجل، أي: أو تمسُّ المرأة الرَّجلَ بشهوة، فينتقض وضوءُها.
والدَّليل على ذلك: القياس، فإِذا كان مسُّ الرَّجل للمرأة بشهوة ينقض الوُضُوء، فكذا مسُّ المرأة للرَّجُل بشهوة ينقضُ الوُضُوءَ، وهذا مقتضى الطَّبيعة البشرية، وهذا قياسٌ واضحٌ جليٌّ.
وعُلِمَ من قوله: «أو تمسُّه بها»، أن المرأة لو مسَّت امرأة لشهوة فلا ينتقض وضوءها، لأن المرأة ليست محلاً لشهوة المرأة الأخرى كما أنَّ الرَّجُل ليس محلاً لشهوة الرَّجُل.
ويمكن أن نقول: إِنَّ المرأة إِذا مسَّت امرأة لشهوة انتقض وضوءُها بالقياس على ما إِذا مسَّت الرَّجُل بشهوة؛ لأن العِلَّة واحدة، ويوجد من النِّساء من تتعلَّق رغبتُها بالشَّابات، كما أنه يوجد من الرِّجال ـ والعياذ بالله ـ من تتعلَّق رغبتهم بالشَّباب، وما دامت العلَّة معقولة، فإِن ما شارك الأصلَ في العِلَّة، وجب أن يُعطى حكمَه، لكن سبق أنَّ القولَ الرَّاجح أن مسَّ المرأة لا ينقضُ الوُضُوءَ مطلقاً ما لم يخرج منه شيءٌ، فما تفرَّع عنه فهو مثله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
|