هذه الخنساء نزلت المدينة بزى الجاهلية فلو وعظتها يا أمير المؤمنين فقد طال بكاؤها في الجاهلية والإسلام .وقام عمر بن الخطاب واتاها يا خنساء ما الذي قرح عينيك ؟ رفعت رأسها وقالت : البكاء على السادة من مضر .قال : أنهم هلكوا في الجاهلية هم وقود اللهب وحشو جهنم قالت : فذاك الذي زادني وجعا وعاشت الخنساء أيامها
كلها في الشيخوخة رفعت بصرها قربانا لأيام البكاء الحارة وحين جاءتها الأخبار أن أولادها الأربعة قد استشهدوا في معركة القادسية كانت قد استنفدت كل الدموع وكل أبيات الشعر وزاد عدد القبور أربعة قبور وأدركت بشكل غامض أن كل ما يمت إليها بصلة مقضي عليه .ولم يبق إلا هي : وحيدة كئيبة تنتظر وقع دبيب الموت الذي تأخر عن موعده .
أعَيْني جُودَا ولا تَجْمدا ...... ألا تَبكيان لصَخْرِ النَّدى ؟
ألا تبكيان الجريَ الجميلَ ..... ألا تَبْكيانِ الفَتَى السَّيِّدا ؟
________________
(1) جريدة الأمة الإسلامية العدد الصادر بتاريخ (مايو/2001) (صفر/1422)
3- مقتل أخويها معاوية وصخر واستشهاد أولادها الأربعة:.
قتل معاوية على يد هاشم ودريد ابنا حرملة يوم حوزة الأول سنة 612 م ،فحرضت الخنساء أخاها صخر بالأخذ بثأر أخيه ، ثم قام صخر بقتل دريد قاتل أخيه. ولكن صخر أصيب بطعنة دام إثرها حولا كاملا، وكان ذلك في يوم كلاب سنة 615 م. فبكت الخنساء على أخيها صخر قبل الإسلام وبعده حتى عميت . وفي الإسلام حرضت الخنساء أبناءها الأربعة على الجهاد وقد رافقتهم مع الجيش زمن عمر بن الخطاب، وهي تقول لهم : (( يا بني إنكم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين ، ووالله الذي لا إله إلا هو إنكم بنو امرأة واحدة ما خنت أباكم ، ولا فضحت خالكم ، ولا هجنت حسبكم ولا غيرت نسبكم ، وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، يقول الله عز وجل يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون). فإذا أصبحتم غدا إن شاء الله سالمين فأعدوا على قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها، واضطرمت لظى على سياقها، وجللت نارا على أوراقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها تظفروا بالغنم والكرامة في الخلد والمقامة…)). وأصغى أبناؤها إلى كلامها، فذهبوا إلى القتال واستشهدوا جميعا، في موقعة القادسية . وعندما بلغ الخنساء خبر وفاة أبنائها لم تجزع ولم تبك ، ولكنها صبرت، فقالت قولتها المشهورة: ((الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته)). ولم تحزن عليهم كحزنها على أخيها صخر ، وهذا من أثر الإسلام في النفوس المؤمنة ، فاستشهاد في الجهاد لا يعني انقطاعه وخسارته بل يعني انتقاله إلى عالم آخر هو خير له من عالم الدنيا ؛ لما فيه من النعيم والتكريم والفرح ما لا عين رأت ولا أ\ن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ، فرحين بما آتاهم ربهم "
4- شعرها وخصائصه:.
تعـد الخنساء من الشعراء المخضرمين ، تفجر شعرها بعد مقتل أخويها صخر ومعاوية ، وخصوصا أخوها صخر ، فقد كانت تحبه حبا لا يوصف ، ورثته رثاء حزينا وبالغت فيه
حتى عدت أعظم شعراء الرثاء. ويغلب على شعر الخنساء البكاء والتفجع والمدح والتكرار؛ لأنها سارت على وتيرة واحدة ، ألا وهي وتيرة الحزن والأسى وذرف الدموع ، وعاطفتها صادقة نابعة من أحاسيسها الصادقة ونلاحظ ذلك من خلال أشعارها.
أ- بعض الأقوال و الآراء التي وردت عن أشعار الخنساء:
يغلب عند علماء الشعر على أنه لم تكن امرأة قبلها ولا بعدها أشعر منها . كان بشار يقول: إنه لم تكن امرأة تقول الشعر إلا يظهر فيه الضعف ، فقيل له : وهل الخنساء كذلك، فقال تلك التي غلبت الرجال.
قال النابغة الذبياني )) الخنساء أشعر الجن والإنس ))
فإن كانت كذلك فلم لم تكن من أصحاب المعلقات ، ويظن أن في هذا القول مبالغة. أنشدت الخنساء قصيدتها التي مطلعها:
قذى بعينيك أم بالعين عوار أم ذرفت إذ خلت من أهلها الدار
لنابغة الذبياني في سوق عكاظ فرد عليها قائلا : لولا أن الأعشى(أبا البصير) أنشدني قبلك لقلت أنك أشعر من بالسوق . وسئل جرير عن أشعر الناس فـأجابهم: أنا، لولا الخنساء ، قيل فيم فضل شعرها عنك، قال: بقولها
إن الزمان ومـا يفنى له عجـب أبقى لنا ذنبا واستؤصل الــرأس
أبقا لنا كل مجهول وفجعنــا بالحالمين (1)هام(2)وأرماس(3)
إن الجديدين(4)في طول إختلافهما لا يفسدان ولكن يفســد النــاس
-------------
يتبع