الامر بالمعروف
يحكى أن شيخاً كبيراً ، كان في سفر على بغلته ، حينما شعر بالجوع والـعـطـش ، لـكـن الـطـريـق خال ، والأرض قاحلة ، فلم ير قرية أو بيتاً يمكن أن يقصد إليه ، وعلى الرغم من أنه تعود على الجوع والعطش ، لكنه لم يكن قد أصاب شيئاً منذ أكثر من يومين ، فنزل عن بغلته ، وتيمم صعيداً طيباً ، وصلى ركعتين ، ودعا ربه أن ينقذه من الموت جوعاً وعطشاً ، ثم عاود المسير ، كان قد مضى النهار ، وبدأ المساء يزحف بظلاله المتطاولة ، عندما أبصر شيئاً من بعيد ظنه بيتاً أول الأمر ، فحث بغلته إليه ، حتى إذا اقترب منه ، وجده شجرة كبيرة ، فاستبشر خيراً ، إذ لابد أن يجد ماء بقرب تلك الشجرة ، وربما وجد فيها ما يأكله ، غير أنه وجدها شجرة من أشجار الصحراء الشوكية العتيقة ، التي تكاثفت أغصانها واشتبكت إبرها الحادة ، فلم تكن فيها حتى الأوراق التي طمع أن تأكلها بغلته ، فحمد الله سبحانه وتعالى وشكره ، فلعل الله الرحيم يختبر صبره .. ورأى أن يبيت تحتها ليلته ، وفي الصباح قد يجد فيها عشاً أو أعشاشاً لبعض الطيور وربما وجد فيها بيضات يأكلها ، وفي الصباح وجد أن قواه لا تعينه عــلـى النهوض ، وأن بغلته أنهكها الجوع والعطش ، وليس من المروءة أن يحملها أكثر مما احتملت ، فربطها إلى غصن في الشجرة ، وفرش عباءته ، واستلقى عليها منتظراً رحمة من الله وعوناً ، تعجب الشيخ بشيء من الألم وحار ، فقد وجد هذا الطريق مهجوراً لا يسلكه أحد ، ولا تمر به حتى حـيـوانـات الصحراء ، فلم يكن يسمع صوتاً ، أي صوت ، ولا صوت الريح ، وندم لسيره في هذا الطريق وفكر .. ربما كانت منيته هي التي قادته إلى هذا الدرب المقفر من كل شيء.
بدأ الشيخ وكأنه سيغمى عليه من الضعف ، عندما رأى ظلا يتجه إليه ، فرمش بعينيه وأغمضهما ، ثم فتحهما وحدق ، وعندئذ رأى شبحاً لرجل يسرع في المشي تجاه الشجرة ، فاستغفر ربه عما فكر به ، وداخله من يأس ، وقال لنفسه: "الحمد لله .. إنها رحمته .. فرجلان أفضل من واحد في مثل هذا الطريق" ، بلغ الرجل مكان الشيخ وسلم عليه ، فحرك الشيخ شفتيه يرد سلامه من دون صوت فأسرع الرجل إليه ، وأخرج قربة مائة وقربها من شفتيه ، ثم أخرج من مخلاته شيئاً من خبز وحبات تمر ، قدمها له ، وأعانه على تناولها ، فشكره الشيخ ، وحمد الله على لطفه ورحمته ، وصلى ركعتين ، ثم ترافقا في الطريق حتى افترقا ، كل إلى قرية من القرى التي بلغاها في نهاية مسيرهما.
مضت الأيام والشهور، ونسى الشيخ ما مر به ، والرجل مثله نسى تلك الطريق وما صادفه فـيـهـا ، حتى ليلة ، تهيأ الشيخ للنوم بعد صلاة الليل وقراءة في القرآن الكريم ، ثم اندس في فراشه ونام ولكنه ما لبث أن تنبه على صوت في البيت ، ففتح عينيه ورفع رأسه لينظر ، فرأى رجلاً يتحرك ، ثم اقترب منه الرجل وقد ظنه نائماً ، ورآه الشيخ وعرفه ، إنه صاحبة ذاك الذي أطعمه وسقاه ورافقه في الطريق ، وقد عرف الآن أنه لص ، وإنه دخل بيته ليسرقه من دون أن يعرف من صاحبه ، فحار الشيخ أيتظاهر بالنوم ويترك له أن يأخذ ما يأخذه فلا يفاجئه ويشعره بالخجل والعار؟ أم يعرفه بنفسه؟ وقد امتلأ الشيخ عجباً أن يكون رجل بمثل الكرم والمروءة التي رأها فيه ، ويعمل لصاً يسرق الناس أشياءهم ، ورأى أن واجبة أن يواجهه ، إذ إن عليه أن ينهاه عن هذا المنكر ، ويأمره بسلوك الطريق إلى رضاء الله سبحانه وتعالى.
وهذا تنحنح الشيخ ، ونهض سائراً تجاهه وهو يقول أهلاً ومرحباً بك يا أخي .. لقد كنت كريماً طيب النفس هناك تحت الشجرة في الطريق البعيد ، وأريد أن أرد لك طيب عملك وجميل صنعك ، رفع الرجل عينيه وعرفه ، فخجل وأطرق ، فقال له الشيخ ، لا عليك يا أخي تفضل .. سأعطيك طعاماً إن كـنـت جـائـعـاً ، وأسقيك ماء أو لبناً إن كنت عطشاً ، زاد حرج الرجل وارتباكه ، وهم بالهرب لولا أن الشيخ كان قد أمسك بيده بقوة ، وأحضر طعاماً وشراباً ، فأكلا وشربا ، والرجل لا يرفع عينيه إلى عـيـنـي الشيخ ، الذي بدا فرحاً ومسروراً ، فقد مكنه الله من رد معروف أسداه إليه هذا الرجل ، الذي كان قد أنقذه من الموت جوعاً وعطشاً وتعباً ، وحين نهض الشيخ لصلاة الفجر ، نهض الرجل وصلى معه ، وقد حرص الشيخ أن لا يشير إلى ماء جاء بالرجل ، ولم يعاتبه أو يطالبه بالتوبة والاستقامة ، لكنه بالغ في إكرامه جزاء عمل الخير والمعروف الذي أبداه هناك ، ورفض أن يدعه يعود إلى أهله إلا حين يبلغ في رد جميله الحد الذي يرضاه الله ويرضاه هو لنفسه ، حتى شك الرجل أن الشيخ ينوي أن يسلمه إلى شرطة الوالي ، غير أن عكس هذا هو الذي حدث ، فقد حملة الشيخ هدايا ، وقدم له عطايا كثيرة مما يملك ، ودعا أهل بيته وأولاده وجيرانه ليسلموا ويحيوا الرجل الذي أطعمه وسقاه في مكان يحرص كل إنسان على ما ليه من طعام وشراب .. تأثر اللص كثيراً لما وجد من الشيخ ، وبينما هو جالس ، رفع عينيه إليه ، فرأى الشيخ دموعاً فيهما ، وتعجب ، وسأله: مالك يا أخي؟ لقد أبكيتني من نفسي وعلى نفسي ، فقد أريتني بعملك هذا المعروف كم يكون عمل الخير كبيراً وعظيماً! فما أكبر ما كنت عليه معك بالأمس وما أصغرني الآن! ومد يده وتناول يد الشيخ ، وقال ، أنا أتوب على يديك يا شيخ ، وأقسم إنني لن أعود إلى عمل اللصوصية والسرقة ما حييت حتى لو مت وعائلتي جوعاً قال له الشيخ: بارك الله فيك يا أخي .. إن معدنك طيب ، فأبشر .. لن تموت أنت وعائلتك من الجوع ، بل ستعيش كريماً وعزيزاً ، وتأكل حلالاً طيباً .. بارك الله فيك وفي أمثالك ، وهكذا عاد الرجل لأهله ، لا كما يعود كل مرة ، إنما عاد محملاً بالكثير من الرزق لطيب الحلال ، وأكثر من هذا أنه ممتلئاً رضى عن نفسه ، وعما عمله في ليلته ويومه.
---------------------
للفايدة