[ إلى ذكرى أخي أبي معاذ.. وفاءً لدمائك التي سالت، لتسقي جدب عزائمنا، وقحط أخوتنا ..!]
ثمة صورةٌ تخيلية - أحسبها - مكرورة عند كثير من شباب الصحوة الحيارى، وهم يُبصرون ( الفصام ) النكد الزائف بين التربية وأهلها، والجهادِ وأهله :
أتخيل أحدَنا يُمسك حيرانَ، بوردة مجتزةٍ من غصنها..
ويشرع في قطع خمائلها.. واحدةً.. واحدة.. واحدة :
دعوة و تربية..
إعداد وجهاد ..
دعوة و تربية..
إعداد وجهاد ..
دعوة و تربية..
إعداد وجهاد ..
آخر خميلة :
دعوة و تربية..
هكذا إذن ..!
فالدعوة و التربية أولى وأحرى..!!
ويُمسك حيرانُ آخر بوردة أخرى، فينتهي قطع الخمائل على خميلة : الإعداد والجهاد..
ليقول لنفسه : فالإعداد والجهاد أجدر وأولى..!
هاته هي الصورة المؤلمة المكرورة..
وهذا هو ( الفِصام ) الزائف، الذي يُخيل إلينا من نزغ الشيطان أنه حقيقة واقعة، وأن الجهاد والتربية سيفان لا يجتمعان في غمد، وقلبان لا يلتقيان في جوف..!
* * * * * * *
لو سألنا ( نظريًا ) أيًا ممن يتبنى أحد الرأيين، وقلنا له :
يا أخي.. أليس الجهاد والتربية وجهين لعملة واحدة..؟!
سيكون الجواب جزمًا :
بلى ..
لكن ( بلى ) هذه، تظل - غالبًا – مجرد ثلاثة أحرف تطير في الجو، أو تُسطر على الورق..
وتبقى – على قصرها – بعيدةً عن طرائق التربية العملية..
وغائبةً عن طرح شباب الجهاد الملموس..
وعندما رحلتَ أخي أبا معاذ..
ما كنتُ تبصر تهوينًا من شأن الدعوة والتربية، ولا وصمًا لكل مُنشغلٍ بها بالقعود والتخذيل و ( الانبطاح )..!
وما كنتُ تسمع تمييعًا لمفهوم الجهاد، ولا صرفًا لنصوص الجهاد والقتال إلى جهاد النفس، وجهاد الكلمة، وجهاد الرأي..
بل أدركت الصحوة وهي بفطرتها ونقائها وصفائها، وقادتُها يربّون فينا الحقيقة التي عليها نشأتَ أنت وأمثالك.. الحقيقة التي شعارها :
~~ أن الجهاد من أعظم طرائق التربية، ومن أكبر وسائل الدعوة..؟!
~~ وأن التربيةَ هي المحضن الذي يُنبت لنا قادةَ الجهاد الواعين الأبطال، والدعوةَ هي المنجم الذي يُخرج للأمة خيار " معادن " المجاهدين..؟!
* * * * * * *
لقد كان ذاك هو الفهمَ البدهي البدائي السائد في أوساط الصحوة، وهو الذي خرَّجك يا أخي أبا معاذ..!
نعم..
كان هُناك اختلافٌ في وجهات النظر بين الفريقين، لكنه اختلافُ تنوع، لا اختلاف تضاد..
وكل فريقٍ يدعو لأخيه ويذكره بالخير، ويذب عن عرضه..!
وكان الذين ربّوك يقولون : لقد رحل ( المُجاهد ).. ولنعم الراحل هو..!
وكان الشباب في الثغور يقولون : هكذا تكون ( محاضن التربية، وحلقات تحفيظ القرآن، والمراكز الصيفية )، منابتَ ينمو فيها العلماء والمربون والمجاهدون..!
كان يا ما كان..!
كان يا ما كان..!
وكأنها أسطورةٌ من التراث، يرويها شيخٌ كبيرٌ لأحفاده ليتسلوا بها، ويُحلقوا معها في جو الخيال..!
* * * * * * *
أبا معاذ..
ليست هذه سيرةً أُسجل فيها تفاصيل حياتك، وقصة رحيلك، ويوم استشهادك..
لأن سيرتك الحقيقة هي التي تبقى في القلوب، وترفع الهمم، ويقتدي بها المُقتدون.. وإن لم تُكتب..!
ولا هي حروفًا.. أبكي فيها أطلالَ ذكرياتٍ، لم تندرس معالمُها بعدُ..
وهل ييكى الأطلالَ من كان يعيش في أرجائها..؟!
ولا هي سطورًا.. أرثي فيها أيام الصحوة الخوالي..
وهل يُرثى من كان حيًا يتنفس..؟!
ولا هي " لومًا " لهؤلاء، ولا " تقريعًا " لأولئك..
فما هم إلا إخوانٌ لي وأحبةٌ لقلبي :
" وإذا الحبيبُ أتى بذنبٍ واحدٍ .......... جاءت محاسنه بألف شفيعٍ ! "
ولا هي - فيما أبصر وأرى - مُبالغةً ولا تهويلاً..
لأن الواقع ناطقٌ بما أقولُ، وإن أطلت بعض الاستثناءات هُنا وهناك..!
إنما هي ..
هي.....
لستُ أدري والله ما هي..!
قد تكون محاولة لنفض بعض الغبار عن ( الأخوة ) التي لن تنفصم عُراها، وإن شابها ما يشوب الإخوة الخُلطاء .. ورغبةٌ خجلى في لفت الأنظار إلى بصيص ( الأمل ) الذي يبزغ من خلف الركام..
لكن الشئ الذي أعرفه يقينًا.. أنها" خطراتٌ " ظلت حبيسةَ الذهن أمدًا..
حتى إذا ما أتى خبرُ استشهادك - أحسبُك كذلك - قبل البارحة؛ انسابتْ هاته الخطراتُ وتحدرت..
فقد التقى الهمُّ على أمرٍ قد قُدر..
أبا معاذ :
البارحة..
في بيت العزاء..
كانت كل زاويةٍ ناطقةً بذكراك..!
النخلةُ المائلة التي طالما استلقيت في ظلها، وأنت تترنم بآيات الله..
والملحقُ الخارجي الذي كان صومعةً تفر إليها من وعثاء الحياة اللاهثة..
والفناء الذي ذرعته في طفولتك ذهابًا وإيابًا..!
مكتبتُك..
دفاترُك..!
أكاد ألمح طيفك البسّامَ عند عتبة الباب، وأنت تنتظرني لنصطحب سويًا إلى حلقة تحفيظ القرآن الكريم..
حلقة تحفيظ القرآن.. أتذكرها.. ؟!!
إنها ما زالت تذكر أيامَك ونشاطك..
ومازالت تلك السارية التي تهواها تتوق إلى اتكاءة ظهرك النحيل..
ومصحفك الأخضر لم يبرح سيارتي من يوم رحيلك.. أناجي حروف اسمك المنقوشة على طرَّته..
وبواكير الصباح تُذكرني قدومك ماشيًا إلى المسجد، لنجلس معًا نتذاكر كتاب الله..!
* * * * * * *
البارحة.. في بيت العزاء..
تذكرتُ – والذكرى مؤرقةٌ – يومَ رحيلك..!
حينما هاتفتني تطلب مني اللقاء.. فأتيتُك وقلبي يُحدثني أنك فاعلٌ ما عزمتَ عليه لا محالة.. وأنك مُحققٌ مناك الذي كبرت وكبر معك : أن ترحل إلى أرض الجهاد في الشيشان..
يومها..
حاولتُ اصطناع التجلد والاصطبار..
وحبستُ الدمع في المآقي؛ لئلا أخذلك وأنت قد شددت الرحال..
ففضحتني حمرةُ العين، ورعشةُ الشفاه، ووجيبُ القلب..!
لم أشأ أن أطفئ جذوة حماسك بتخذيلك أو ردك عن مقصدك.. ولا رأيتُ أن أسدي لك الكلمات التي يحسبها المربون ستصد المتعلق بالجهاد.. وهي – على الحقيقة – تزيد الجذوة ضرامًا..!
فقد تناقشنا قبلُ حول أمر ذهابك للجهاد كثيرًا..
وعلمتُ أن مثلَك سيرحل ولو حبوًا..
فما كان يليقُ بي – وأنا الذي أزعم أني أسهمتُ في تربيتك يومًا – أن أقف أمامك، أو أوهن عزمك..
وإنما حاولتُ إعطاءك ما أحسب أنه سيفيدك ويُفيد الإخوة هُناك، وشددتُ من أزرك، وحمَّلتُك أمانة إيصال زكاة علمك وتربيتك لأهل الثغور..
دينًا أدين الله به.. ورأيًا أراه هو الصواب..
وهل تحجب السيلَ الهادرَ سدودٌ من ورق..؟!
* * * * * * *
أبا معاذ..
أتراك تردد في غيابك هذا البيت :
" لأعرفنّك بعد الموت تندبني................. وفي حياتيَ ما زودتني زادي.."
أتُراك تتمثل هذا البيت، وأنت راحلٌ إلى مُرادك.. وقد بلغك ما تنضح به ساحات الصحوة من اضطرابٍ وانقلاب موازين..؟!
لا يهمني – صدقني – ما سمعتَ من " بعض " قادة صحوتنا وهم يُميعون قضية الجهاد والإعداد، ويصمون من تتوق نفسه إليه بالتهور والتعجل والافتيات على الأمة..!
لأنك قد تكون سمعتَ من " بعض " قادة الجهاد من يسوم أهل التربية والدعوة سوءَ الظن، ويرميهم بالقعود والتخذيل والركون إلى الدنيا..!
وقد نزغ الشيطان بين الفريقين، ولبَّس عليهم الأمور، فخُيل إليهم أن الورمَ هو المرض، وما علموا أنه مجرد " ظاهرة " للمرض الساري في الجسد منذ أمد، فجاءت الأحداث الأخيرة لتكون الشوكة التي نكأت الورم، فانبجس منه قيحُ الفتنة وصديدُ الفُرقة..!
لا يهمني أبا معاذ شيئًا من ذلك، لأني ألمح خلف ركام الشتات والاختلاف بصيصًا من أملٍ واعد، واجتماعٍ مُحبب..
ولأن العواصف ستهدأ حتمًا، والزوابعَ ستسكن يومًا.. وسيذهب الزبد جفاءً، ويبقى ما ينفع الناس..
لذا؛ لا يهمني ذلك كله، كما يُهمني ألا تتمثل هذا البيت وأنت تتصور حالي معك..!
إن مجرد تخيل رحيلك وأنت تحمل في قلبك عتابًا علي، يُحيل نبضات قلبي إلى سهامٍ ترمي الفؤاد، لا ترحمُ ولا تني..!
فعُذرًا – لو أجدى العذرُ – عُذرًا.. إن كنتُ قد قصرتُ في حقك وأنت بين يدي..
وعُذرًا – أيها الراحل - عن مخاصمتي إياك في أمرٍ لا يستحق الخصامَ ولا اللدد، لو تمعَّنتُ فيه لبكيتُ ألمًا، وشر البلية ما يُبكي..!
وعُذرًا- أيها الحبيبُ - .. إن كنتُ قد هجرتُك إثر موقفٍ تافهٍ، لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لما التفتُ إليه..!
لو..؟!
لو..؟!
وهل تفتح ( لو ) إلا عمل الشيطان..؟!
* * * * * * *
يا صاحبي الذي مضى..
هذه آفةٌ ( أخوية ) مستشرية :
نتجادل ونتخاصم ونتهاجرُ في أمورٍ هي من سفاسف الأمور..
حتى إذا ما رحل أخي، أو غاب، أو مات.. عُدتُ إلى نفسي؛ أبكي على ما سلفَ منّي وبدر..!
وأشعر نحو أخٍ لي بمشاعر الحب الصادق في الله، فتظل تلك المشاعرُ حبيسةَ الأضلاع، أحسبها " ميوعةٌ " لا تليق بالرجال..!
حتى إذا ما رُزئتُ بفقد أخي.. ظللتُ أردد : ليت أني أراه لحظةً واحدة، لأبوح له بحبي وودي وإخائي..!
فكيف بي والأخ الذي ضننت عليه بأخوتي هو أنت..؟!
وكيف بالأعذار وهي ترتد إلي كليلة حسيرة، وتقول لي : ليت أنك بكرّت قليلا، فقد رحل من تعتذر إليه..!
" ( ليتَ ).. وهل تنفع شيئًا ليتُ ..؟! "
* * * * * * *
سقى الله سفوح ( فيدنو ) التي طالما حرثت أرضها جهادًا وبطولةً وفداءً..
ورحمك الله أبا معاذ.. وتقبلك في الشهداء.. وأكثر من أمثالك الناثرين بذور الأمل في حقول اليأس
وألحقنا بك وبالشهداء مقبلين غير مُدبرين..
---------------------
للفايدة