وبشـــــر الصـــابـــريــــن.
الحمدلله وحده،والصلاة والسلام على من لانبي بعده،أمابعد:
فلما كان الصبر نصف الإيمان ،وخلقاً فاضلاً من أخلاق النفس ، وقائداً للنفس إلى طاعة الله، وصارفاً لهاعن معصيته، كان ضرورياً أن نبين حقيقته وفضله وأنواعه ومراتبه وحال الناس معه،والأمور التي تقدح فيه وتنافيه، في وقت كثرت فيه المصائب، وعمت الفتن، وزادت الشبهات، وأصبــح القابض على دينه كالقابض على الجمر، وصارت حاجة الناس إلى الصبر لا تقـل عن حاجتــهم إلى الطعام والشراب. .
فنسأل الله تعالى أن يرزقناالصبرعلى طاعته، والصبر عن معصيته،والصبرعلى قضائه وقدره ، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
حقيقة الصبر وحال الناس معه: الصبرهو حبس النفس عن الجزع، واللسان عن الشكوى، والجوارح عن لطم الخدودوشق الثياب ونحوهما.وهو خلق فاضل من أخلاق النفس، يتمتع به من فعل مالايحسن ولايجمل.
وهوقوة من قوى النفس،التي بها صلاح شأنهاوقوام أمرها.وقيل(هوالمقام على البلاء بحسن الصحة كالمقام مع العافية).
ومعنى هذا أن لله على العبد عبودية في عافيته وفي بلائه، فعليه أن يحسن صحبة العافية بالشكر ،وصحبة البلاء بالصبر.
وسئل عنه الجنيدفقال):هو تجرع المرارة من غير تعبس).
وقال ذو النون هو التباعد عن المخالفات،والسكون عند تجرع غصص البلية،وإظهارالغنى مع حلول الفقر بساحات المعيشة).
والصبر للنفس بمنزلة الخطام والزمام،فهو الذي يقودها في سيرها إلى الجنة أو النار،فإن لم يكن للمطية خطام ولازمام،شردت في كل مذهب.
وحفظ عن بعض السلف قوله اقدعوا هذه النفوس فإنها طلعةإلى كل سوء) أي:كفوهاعماتتطلع إليه من الشهوات.
فرحم الله امرأً جعل لنفسه خطاما وزماما فقادها بخطامها إلى طاعة الله ،وصرفها بزمامهاعن معاصي الله،فإن الصبرعن محارم الله أيسرمن الصبرعلى عذابه.
فحقيقة الصبر إذن أن يجعل العبد قوة إقدامه مصروفةإلى ما ينفعه،وقوة إحجامه إمساكاً عما يضره.
أماعن حال الناس مع الصبر:فمنهم من تكون قوة صبره على فعل ما ينفع به أقوى من صبره عما يضره؛فيصبر على مشقة الطاعة ولا صبر له عن داعى الهواه إلى ارتكاب مانهي عنه.ومنهم من تكون قوة صبره على المخالفات والمعاصي أقوى من صبره على مشقة الطاعات.
ومنهم من لا صبر له على هذا ولا على ذاك.فكثيرمن الناس يصبر على مشقة الصيام في الحر وعلى مشقة قيام الليل في البرد،ولا يصبر عن نظرة محرمة.
وكثير منهم يصبر عن النظر إلى المحرمات وعن الالتفات إلى الصورالعارية،ولا صبر له على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وجهاد الكفار والمنافقين،بل هو أضعف شيء عن هذا.
وأكثرهم لا صبر له على واحدمن الأمرين،وأقلهم أصبرهم في الموضعين،ولهذا قيلالصبر ثبات باعث العقل والدين في مقابلة باعث الهوى والشهوة).
فضل الصبر: للصبرفضائل كثيرة منها:أن الله يضاعف أجر الصابرين على غيرهم،ويوفيهم أجورهم بغير حساب،فكل عمل يعرف ثوابه إلا الصبر،قال تعالى
إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) [الزمر:10].
وأن الصابرين في معية الله،فهو معهم بهدايته ونصره وفتحه،قال تعالى إن الله مع الصابرين)[البقرة:153].قال أبو علي الدقاق فاز الصابرون بعزالدارين لأنهم نالوا من الله معية). v وأخبرسبحانه عن محبته لأهله فقال(والله يحب الصابرين) [آل عمران:146]وفي هذا أعظم ترغيب للراغبين.وأخبرأن الصبر خير لأهله مؤكداً ذلك باليمين فقال سبحانه
ولئن صبرتم لهو خير للصابرين)[النحل:126].
وجمع الله للصابرين أموراً ثلاثة لم يجمعها لغيرهم وهي:الصلاة منه عليهم،ورحمته لهم، وهدايته إياهم،قال تعالى:{وبشر الصابرين،الذين إذاأصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون،أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون}[البقرة:155-157].
وقال بعض السلف وقدعزي على مصيبة وقعت به:مالي لا أصبر وقد وعدني الله على الصبر ثلاث خصال،كل خصلة منها خير من الدنياوماعليها. ومنهاأيضاأن الله علق الفلاح في الدنيا والآخرة بالصبر،فقال: {يأيها الذين ءامنوااصبرواوصابرواورابطواواتقواالله لعلكم تفلحون}[آل عمران:200]فعلق الفلاح بمجموع هذه الأمور.
واستقصاء جميع فضائل الصبر يطول،وسيأتي مزيدعند الحديث عن الصبر في القران والسنة.
أنواع الصبر:
أنواع الصبرثلاثة: كما قال أهل العلم وهي:صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله،وصبر على أقدار الله.
ومرجع هذا أن العبد في هذه الدنيا بين ثلاثة أحوال:بين أمر يجب عليه امتثاله،وبين نهى يجب عليه اجتنابه وتركه،وبين قضاء وقدر يجب عليه الصبرفيهما، وهو لا ينفك عن هذه الثلاث مادام مكلفا،وهو محتاج إلى الصبر في كل واحد منها.
وهذه الثلاثه هي التى أوصى بها لقمان ابنه في قوله:{يابنى أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر و اصبر على ما أصابك} [لقمان:17].
بالإضافة إلى أن الصبرفي اللغة هو الحبس والمنع، فيكون معناه حبس النفس على طاعة الله،وحبس النفس ومنعها عن معصية الله،وحبس النفس إذا أصيبت بمصيبة عن التسخط وعن الجزع ومظاهره من شق الجيوب ولطم الخدود والدعاء بدعوى الجاهلية.
أماالصبرعلى الطاعات فهو صبر على الشدائد؛ لأن النفس بطبعها تنفر عن كثير من العبادات،فهي تكره الصلاة بسبب الكسل وإيثار الراحة، وتكره الزكاة بسبب الشح والبخل،وتكره الحج والجهاد للأمرين معاً،وتكره الصوم بسبب محبة الفطر وعدم الجوع، وعلى هذا فقس.فصبر على الطاعات صبر على الشدائد.
والعبديحتاج إلى الصبرعلى طاعته في ثلاثة أحوال:
الأولى: قبل الشروع في الطاعة بتصحيح النية والإخلاص وعقد العزم على الوفاء بالمأمور به نحوها،وتجنب دواعي الرياء والسمعة، ولهذاقدم الله تعالى الصبر على العمل ].
الثانية:الصبرحال العمل كي لايغفل عن الله في أثناء عمله،ولا يتكاسل عن تحقيق آدابه وسننه وأركانه،فيلازم الصبرعند دواعي التقصيرفيه والتفريط،وعلى استصحاب ذكر النية وحضور القلب بين يدي المعبود.
الثالثة:الصبر بعدالفراغ من العمل، إذ يحتاج إلى الصبر عن إفشائه والتظاهر به للرياء والسمعة،والصبر عن النظر إلى العمل بعين العجب،والصبر عن الإتيان بما يبطل عمله ويحبط أثره كما قال تعالى:{لاتبطلواصدقاتكم بالمن والأذى}[البقرة:264] فمن لا يصبر بعد الصدقة عن الأذى فقد أبطل عمله
فالطاعة إذن تحتاج إلى مجاهدة وصبر،ولهذاقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((حفت الجنة بالمكاره.....))[رواه مسلم]أي بالأمور التي تشق على النفوس.
وأماالصبرعن المعاصي فأمره ظاهر،ويكون بحبس النفس عن متابعة الشهوات،وعن الوقوع فيما حرم الله. وأعظم ما يعين عليه ترك المألوف،ومفارقة كل مايساعد على المعاصي، وقطع العادات،فإن العادةطبيعة خاصة،فإذاانضمت العادة إلى الشهوة تظاهرجندان من جند الشيطان على جند الله،فلا يقوى باعث الدين على قهرهما.ولهذاقال النبي صلى الله عليه وسلم...وحفت النار بالشهوات) وذلك لأن النفوس تشتهيها وتريد أن تقتحم فيها،فإذاحبس الإنسان نفسه عنها وصبر على ذلك كان ذلك خيرا له.
وأماالصبرعلى البلاء فقدقال الله تعالى:{ولنبلونكم بشىء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشرالصابرين} [البقرة:155].
ويكون هذا الصبر بحبس اللسانعن الشكوى إلى غيرالله تعالى،والقلب عن التسخط والجزع،والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحوها. فالصبر من العبد عند وقوع البلاء به هو اعتراف منه لله بما أصاب منه واحتسابه عنده ورجاء ثوابه ، فعن أم سلمة قالت:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصاب أحدكم مصيبة فليقل:إنالله وإنا إليه راجعون،اللهم عندك أحتسب مصيبتي فأجرني فيها،وأبدل لي بهاخيرأمنها)[رواه أبو داود].
فلمااحتضر أبو سلمة قال:اللهم اخلفني في أهلي خيراً مني.
فلما قبض قالت أم سلمة:إنا لله وإنا إليه راجعون،عندالله أحتسب مصيبتي.
فانظر عاقبة الصبر والاسترجاع ومتابعة الرسول والرضا عن الله إلى ماآلت إليه.
ونالت أم سلمة نكاح أكرم الخلق على الله محمد صلى الله عليه وسلم مراتب الصبر
وهي ثلاثة كما ذكر ابن القيم رحمه الله:
الأولى:الصبر بالله،ومعناها الاستعانة به ،ورؤيته أنه هو المصير،وأن صبر العبد بربه لا بنفسه،كما قال تعالى:{واصبر وما صبرك إلابالله}[النحل:127]يعنى:إن لم يصبرك الله لم تصبر.
الثانية:الصبر لله،وهوأن يكون الباعث له على الصبر محبة الله تعالى،وإرادة وجهه والتقرب إليه،لا لإظهار قوة نفسه أوطلب الحمد من الخلق،أو غير ذلك من الأغراض.
الثالثة:الصبر مع الله وهو دوران العبد مع مراد الله منه ومع أحكامه،صابراً نفسه معها،سائراً بسيرها،مقيماً بإقامتها، يتوجه معها أينما توجهت، وينزل معها أينما نزلت، جعل نفسه وقفا على أوامر الله ومحابه،وهذا أشد أنواع الصبر وأصعبها ، وهو صبر الصديقين.
قال الجنيد المسير من الدنيا إلى الآخرة سهل هين على المؤمن،وهجران الخلق في جنب الله شديد، والمسير من النفس إلى الله صعب شديد ، والصبر مع الله أشد).
الصبر في القرآن ذكر ابن القيم رحمه الله كثيرا من المواضع التي ورد بها الصبر في القرآن الكريم،ونقل عن الإمام أحمد رحمه الله قوله ذكر الله سبحانه الصبر في القرآن في نحو تسعين موضعا)ونحن نذكر بعض الأنواع التي سيق فيها الصبر في القرآن ومنها:
1-الأمر به كقوله تعالى:{واصبر و ما صبرك إلا بالله} [النحل:127]،وقوله:{واصبر لحكم ربك}[الطور:48].
2-النهى عن ضده وهو الاستعجال كقوله تعالى:{فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم}[الأحقاف:35].وقوله: {ولاتكن كصاحب الحوت}[القلم:48].
3-الثناء على أهله،كقوله تعالى:{والصابرين في البأساء والضرآء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون}[البقرة:177].
4-تعليق النصر والمدد عليه وعلى التقوى،كقوله تعالى:{بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة ألف من الملائكة مسومين } [آل عمران:125]ولهذاقال النبي صلى الله على وسلم: ((واعلم أن النصر مع الصبر))
5-الإخبار بأن الفوز بالمطلوب المحبوب ؛والنجاة من المكروه المرهوب،ودخول الجنة وسلام الملائكة عليهم،إنما نالوه بالصبر، كما قال :{والملائكة يدخلون عليهم من كل باب،سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار} [الرعد:23،24]
6-الإخبار أنه إنما ينتفع بآيات الله ويتعظ بها أهل الصبر، كقوله تعالى:{ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لأيات لكل صبار شكور}[إبراهيم:5] 7
-الإخبار أن خصال الخير والحظوظ العظيمة لا يلقاها إلا أهل الصبر كقوله تعالى:{ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقها إلا الصابرون}[القصص:80]،وقوله:{ومايلقها إلا الذين صبروا وما يلقها إلا ذو حظ عظيم} [فصلت:35]
8-تعليق الإمامة في الدين بالصبر واليقين ،كقوله تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآيتنا يوقنون}[السجدة:24]فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين0
9-أن الله أثنى على عبده أيوب بأحسن الثناء على صبره فقال:{إنا وجدنه صابرا نعم العبد إنه أواب}[ص:44]فأطلق عليه نعم العبد بكونه وجده صابرا:وهذا يدل على أن من لم يصبر إذا ابتلى فإنه بئس العبد
10-أنه سبحانه قرن الصبر بأركان الإسلام ومقامات الإيمان، فقرنه بالصلاة في قوله:{واستعينوابالصبر والصلوة}[البقرة:45]، وبالتقوى في قوله:{إنه من يتق ويصبر} [يوسف:90]،وبالشكر وبالرحمةفي قوله:{وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة}[البلد: 17]،وبالصدق في قوله:{والصادقين والصادقت والصابرين والصابرات} [الأحزاب:35].
وجعل الله الصبر في آيات أخرى سبب محبته ومعيته ونصره وعونه وحسن جزائه،ويكفي بعض ذلك شرفا وفضلا.
الصبر في السنة لقد ورد في السنة النبوية أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان فضل الصبر والحث عليه،وما أعد الله للصابرين من الثواب والأجر في الدنيا والآخرة .
ولقد بوب العلماء للصبر أبوابا عدة في كتبـهم، وذكروا تحتهامن الأحاديث مالا يحصى،ونحن نذكر هنا بعضها:
1-في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال:مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال اتقي الله واصبري)فقالت:إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي-ولم تعرفه- فقيل لها:إنه النبي صلى الله عليه وسلم،فأخذها مثل الموت، فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد على بابه بوابين، فقالت:يا رسول الله،لم أعرفك.فقال صلى الله عليه وسلم(إنما الصبر عند الصدمة الأولى)فإن مفاجأة المصيبة بغتة لها روعة تزعزع القلب وتزعجه بصدمها،فإن صبر للصدمة الأولى انكسرت حدتها وضعفت قوتها فهان عليه استدامة الصبر.
2-وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (...ومن يتصبر يصبره الله،وما أعطي أحد عطاء خيرا و أوسع من الصبر)[رواه البخاري ومسلم].
3-وعن أنس رضي الله عنه قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله عزوجل قال:إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه-أي عينيه- فصبر عوضته منهما الجنة)[رواه البخاري].
4-وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم مالاً فقال بعض الناس:هذه قسمة ما أريد بها وجه الله،فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر).
والأحاديث في فضل الصبر والحث عليه أكثر من أن تحصى ،وما ذكر يكفي. من كلام السلف في الصبر
1-قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجدنا خير عيشنا بالصبر)وقال أيضا أفضل عيش أدركناه بالصبر،ولو أن الصبر كان من الرجال كان كريما).
2-وقال الحسن الصبر كنز من كنوز الخير،لا يعطيه الله إلا لعبد كريم عنده).
3-وقال علي رضي الله عنه ألا إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس بار الجسد .
ثم رفع صوته فقال: ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له ) وقال أيضا والصبر مطية لاتكبو).
4-وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه فعوضه مكانها الصبر إلا كان ماعوضه خيرا مما انتزعه).
5-وقال سليمان بن القاسم رحمه الله كل عمل يعرف ثوابه إلا الصبر).
6-وقال ميمون بن مهران رحمه الله الصبر صبران:فالصبر على المصيبة حسن،وأفضل منه الصبر عن المعصية)وقال أيضا ما نال أحد شيئا من جسم الخير فما دونه إلا بالصبر).
أمور تقدح في الصبر وتنافيه لما كان الصبر حبس اللسان عن الشكوى إلى غير الله،والقلب عن التسخط والجزع،والجوارح عن لطم الخدود وشق الثياب وخمش الوجوه، ونحو ذلك، كان ما يقع من العبد عكس ما ذكرته قادحا في الصبر، منافيا له.
ومن هذه الأمور:
1-الشكوى إلى المخلوق،فإذا شكا العبد ربه إلى مخلوق مثله فقد شكا من يرحمه ويلطف به ويعافيه وبيده ضره ونفعه إلى من لا يرحمه وليس بيده نفعه ولا ضره.
وهذا من عدم المعرفة وضعف الإيمان .وقد رأى بعض السلف رجلا يشكو إلى آخر فاقة وضرورة فقال:يا هذا،تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك؟
ثم أنشد:
وإذا عرتك بلية فاصبر لها
صبر الكريم فإنه بك أعلم
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لايرحم
ولاينافي الصبر الشكوى إلى الله، فقد شكا يعقوب عليه السلام إلى ربه مع أنه وعد بالصبر فقال:{إنما أشكوا بثى وحزنى إلى الله} [يوسف:86].
ولا ينافي الصبر أيضاً إخبار المخلوق بحاله؛كإخبار المريض الطبيب بحاله، وإخبار المظلوم لمن ينتصر به،إذا كان ذلك للاستعانة بإرشاده أو معاونته على زوال الضر.
2-ومما ينافي الصبر ما يفعله أكثر الناس في زماننا عند نزول المصيبة من شق الثياب، ولطم الخدود، وخمش الوجوه، ونتف الشعر، والضرب بإحدى اليدين على الأخرى، والدعاء بالويل، ورفع الصوت عند المصيبة
ولهذا بريء النبي صلى الله عليه وسلم ممن فعل ذلك.ولا ينافي الصبر البكاء والحزن من غير صوت ولا كلام محرم، قال تعالى عن يعقوب:{وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم}[يوسف:84] .
قال قتادة: كظيم على الحزن،فلم يقل إلا خيرا)
3-ومما يقدح في الصبر إظهار المصيبة والتحدث بها .وقد قيل: من البر كتمان المصائب والأمراض والصدقة.وقيل أيضا:كتمان المصائب رأس الصبر.
4-ومما ينافي الصبر الهلع،وهو الجزع عند ورود المصيبة، والمنع عند ورود النعمة،قال تعالى:{إن الإنسان خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا} [المعارج:19-21].
قال عبيد بن عمير ليس الجزع أن تدمع العين ويحزن القلب، ولكن الجزع القول السيىء والظن السيىء).
وقال بعضهم:مات ابن لي نفيس،فقلت لأمه:اتقي الله واحتسبيه عند الله،واصبري.
فقالت: مصيبتي به أعظم من أن أفسدها بالجزع.
وأخيراً أسال الله تعالى أن يرزقنا الصبر،وأن يجعلنا من الصابرين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
----------------
للفايدة