عرض مشاركة واحدة
قديم 15-03-2013, 04:19 AM   #1309
الفقير الي ربه
كبار الشخصيات
 
الصورة الرمزية الفقير الي ربه
 







 
الفقير الي ربه is on a distinguished road
افتراضي رد: كلمات مـــــــن القلــــب الــى القلـــــــب

من قصص الطنطاوي يرحمة الله




وليس عجبا أن يموت، والموت غاية كل حي، ولكن العجيب أن يرجع بعدما مات، ليصف للقرء الموت الذي رآه‍
وكان ذلك من شهرين، وكان على سيف البحر في بيروت، وكان البحر هائجا غضبان، يرمي بأمواج كأنها الكثبان، وقد فرّ منه الناس، فليس في الشطوط كلها، على طولها وامتدادها (من سان سيمون إلى الأوزاعي) إلا نفر قليل.
ولم يكن يعرف من السباحة إلا درسا واحدا، كان قد تلقاه من أكثر من ثلث قرن، على معلم لم يسبح أبدا، هو أن يقف حيث لا يصل الماء إلى الصدر، ثم يحاول أن ينبطح، ويسيب قدميه، ويخبط بيديه، ويبقى على ذلك مقدار ما يبتلع من ماء البحر (وهو كشربة الملح الإنجليزي) ما يملأ معدته وأنفه.. ثم يخرج. وكان مع شاب تونسي من علماء جامع الزيتونة، ولا يمتاز في السباحة عنه إلا بأنه أجهل فيها منه، حتى هذا الدرس لم يحضره لأنه لم يكن ولد، فلما كبر لم يستطع ان يأخذ مصله، لأن ذلك (المعلم) كان قد مات.
وتركا (الحمام) حيث النساء العاريات، ثم أخذت أسبح السباحة التي أعرفها: أرفع رجليّ، وأحرك يديّ، فإذا تعبت خرجت أستمتع بالشمس والهواء، وكنت ممتلئا بالصحة، أكاد أتوثب من النشاط توثبا، وكان الموت بعيدا عن فكري، والموت أبدا أبعد شيء في أفكارنا عنا، وإن كان أقرب شيء في حقيقته منا، نتناساه وهو عن أيماننا وشمائلنا، نشيع الجنائز ونمشي معها ونحن في غفلة عنها، نتكلم كلام الدنيا، ونرى مواكب الموت تمر بنا كل يوم، فلا نفكر ولا نعتبر، ولا نقدّر أننا سنموت كما ماتوا، ومات من كان أصح منا صحة، وكان أشد منا قوة وأكبر سلطانا، وأكثر أعوانا، فمنا دفعت عنه الموت لما جاءه صحته ولا قوته، ولا حماه منه سلطانه ولا أعوانه، نعرف بعقولنا أن الموت كأس سيشرب منها كل حي، ولكننا ننسى هذه الحقيقة بشعورنا وعواطفنا، وتحجبها عنها شواغل يومنا، وتوافه دنيانا، يقول كل واحد منا بلسانه: إن الموت حق وإن مقدّر على كل حي، ويقول بفعله: لم أموت، لقد كتب الموت على كل نفس إلا نفسي، فلا يزال في العمر فسحة لي دائما، ولن يأتي أجلي أبدا.
وعاودت الدخول في الماء، وأطلت البقاء فيه، وما أحسست وأنا أتزحزح شبرا فشبرا، أني جاوزت هذه البركة، وبلغت موضعا من البحر عميقا، علمت بعد أن فيه تيارا يتحاماه السباحون القادرون، فكيف بمن لم يكن يتقن من السباحة إلا فن الرسوب.

يتبع..............

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التوقيع

اذكروني بدعوه رحمني ورحمكم الله
سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم



أخر مواضيعي
الفقير الي ربه غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس