على أبواب الثلاثين
نظرت اليوم في سجل ميلادي فوجدتني على أبواب الثلاثين, فتركت عملي و جلست أفكر, ماذا بقي لي من هذه السنين الثلاثين يا أسفي لم يبق إلا ذكريات واهية تحتويها بقية قلب تناثرت أشلاؤه على سفوح قاسيون في دمشق.....لم أفد إلا اسما مشى في البلاد فحمل قسطه من المدح و الذم و التمجيد و الشتم و لكني كنت في معزل عن هذا كله فلم ينلني منه شيء , إن اسمي ليس مني...إنه مخلوق من حروف و لكني إنسان من لحم و دم, فهل تشبعني الشهرة او يكسوني الثناء و لم املك إلا قلبا أحب كثيرا, و أخلص طويلا, و لكنه سقط كليما على عتبات الحب و الإخلاص....
فيا ليتني علمت من قبل أن الحياة مثل اللجة, يطفو فيها الفارغ و يرتفع, و ينزل فيها الممتليء و يغوص....
كنت أقرأ لأني كنت أجهل الحياة, فلما عرفتها لم أعد أطيق قراءة و لا بحثا, و لماذا أقرأ و لماذا أتعلم و لماذا أكون فاضلا و الحياة حرب على أهل العلم و الفضل, و الناس كالحياة لأنهم أبناؤها و تلاميذها.
ألا يحيا الكاذب المنافق سعيدا موقرا, و يموت الصادق الشريف فقيرا محتقرا ألا يبلغ المنافق ذو الوجهين أعلى المراتب و أسماها و يبقى الصادق الشريف في الحضيض...
أليست أسواق الرذيلة عامرة دائمة و أسواق الفضيلة دائرة بائرة
ألا يظفر الكاذب المفتري بالبريء ألا يغلب القوي الضعيف ألا ينتصر المال على العلم
فلماذا أقرأ و لماذا أتعلم و لماذا أكون فاضلا
***
و قمت و قد صفيت حسابي مع الحياة , فإذا أنا قد خسرت ثلاثين سنة هي زهرة عمري و ربيع حياتي و لم أربح شيئا...
الوحدة
إن من حاول معرفة نفسه عرضت له عقبات كأْداء, و مشقات جسام, فإن هو صبر عليها, بلغ الغاية, و ما الغاية التي تطمئن معها النفس إلى الوحدة, و تأنس بالحياة, و تدرك اللذة الكبرى, ما الغاية إلا معرفة الله.
و سيظل الناس تحت أثقال العزلة المخيفة حتى يتصلوا بالله و يفكروا دائما في أنه معهم, و انه يراهم و يسمعهم, هنالك تصير الآلام في الله لذة, و الجوع في الله شبعا, و المرض صحة, و الموت هو الحياة السرمدية الخالدة. هنالك لا يبالي الإنسان ألا يكون معه أحد, لأنه يكون مع الله.
على عتبة الأربعين
لقد كان أكبر أملي يوم كنت في الابتدائية أن أكون معلما و كنت أتوهَّم حياة المعلم فأجدها جنة أنزلت الأرض فيها ما تشتهي الأنفس.....أليس المعلم يأمر فيطاع أمره..... فلما صرت معلما, لم أجد من تلك الجنة إلا أرضا موحلة ما فيها إلا الأشواك...
إن متع الدنيا أوهام , من لم ينلها تشوق إليها و حسد عليها, و من نالها ملها و تمنى غيرها: المتزوج يتمنى العزوبية, و العزب يشتهي الزواج, و المقيم يرجو السفر, و المسافر يطلب المعاد و و و ....و نحن كلنا أطفال ...تشتري للطفل اللعبة النفيسة فيفرح بها و يهش لها , ثم يلقيها و يطلب غيرها, و لو كان دونها. ثم إن الآمال لا تنتهي, فمن أعطي المليون, ابتغى المليونين, و من رفع في الوظيفة درجة طلب درجتين, فلا يزال في شقائين, شقاء بالحاضر الذي لا يقنع به , و بالآتي الذي لا يصل إليه...
أفلهذا وجدت و سعيت أربعين سنة أسعيتُ لأدرك السراب
و تتالت علي الفِكَر, و عاودني الضيق الذي طالما كاد يدفعني (لولا خوف الله ) إلى طلب الموت من سنين, و ما أشكو المرض فصحتي جيدة و لا أشكو الفقر فما أجد من المال يكفيني, و إنما أشكو فراغا في النفس لا أعرف مأتاه, و قوى فيَّ لا أجد لها مصرفا, و حنينا إلى شيء غامض لا أدري ما هو على التحقيق.
-------------
يتبع...