مـَـد القلب وجزره ..!!
ألا تلاحظ أني كلما حاورتك ،أتعمد أن تكون المقدمة طريفة باسمة .. لأني اعتبر ذلك بمثابة ( حرث الأرض ) لنزرع فيها بعد ذلك ونغرس ..لأن الإنسان إذا أقبل عليك وهو منشرح الصدر كان قبوله أكبر ..
فعلا لاحظت ذلك .. فجزاك الله خيرا وبارك الله فيك ..
الآن وبعد المقدمة : هيا بنا لنبحر خلال ساعة نعطر بها قلوبنا بإذن الله
هات ما عندك..أنا شديد التلهف لسماع ما عندك ..
أحسب أننا في حوار اليوم ، سنضرب عدة عصافير بحجر واحد
رااااااااااااااائع.. نسأل الله أن يبارك في هذه الساعة .
تحدثنا منذ فترة كيف يمكن أن نستغل أي ملاحظة أو كلمة أو عبارة أو مشهد …. لتفتح حوارا مع الآخرين .. يمكن بطرح سؤال عادي ، ثم يتفرع عنه كلام يجر إلى حوار شائق .. يمكن بلفت نظره إلى مشهد قريب منكما .. أو كلمة قالها آخر الخ
أذكر أنك حدثتني عن ذلك في حوار سابق كان رائعا ..
إذن أحب أن أسألك عن البحر ؟!
البحر !! أنا في الحقيقة أخاف البحر..!
طيب ، لن أسألك لماذا … ولكن ركز معي الآن ..
قال بعض العارفين .. اعرف البحر … تعرف الله سبحانه !!
سبحان الله
وقال آخر : اعرف البحر .. تعرف كثير من قضايا السفر إلى الله سبحانه
الله أكبر .. ولكن كيف ؟!
الموضوع ذو شجون .. وسنضرب مثالا عابرا
من أهم مميزات البحر والتي لا تنفك عنه: قضية المد والجزر
صحيح ..وماذا عن هذه الظاهرة ؟!
هل يخلو منها بحر من بحار الدنيا عن هذه الظاهرة؟!
أظن لا ..
اذن انتبه يرحم الله والديك الكريمين كذلك الحل القلبي للإنسان مع الله ..
بين مد ..و جزر …. لا ينفع أن يكون المد مستمرا على طول
ومن رحمة الله أن لا يبقى الجزر مستمرا على طول…!!
ولكن بين بين ..تارة وتارة .. ساعة وساعة ..
سبحان الله ،، لفتة رائعة والله ..
وحتى المد …..نفسه ألا تلاحظ أنه يختلف من بحر إلى بحر آخر
هناك مد عالٍ …….. يغمر معه مساحات من الشاطئ
وهناك مد عادي …. يا دوب يزحف على الشاطئ
كذلك حال القلوب ………هناك نوعية من القلوب حين يواتيها المد الروحي ….. تتجاوز كل تخوم الدنيا
الله أكبر .. رااااااااااااااااااااائع.. واصل مدك يا بحر !!
استغفر الله … أنا لا بحر ولا نهر ولا حتى ترعة .. أنا مجرد ناقل ..
ولك أن تقول أنا مجرد حالب وأنت الشارب يا سيدي !
طيب ما علينا واصل كلامك الشيق ..
في حالة المد العالي ، تعيش في حالة روحية عالية جداً ..
ثم ماذا يحدث بعد ليلة أو ليلتين ؟
يأتيها الجزر.. صح !؟
نعم …سنة الله … ولن تجد لسنة الله تبديلا
هل تعرف أن حالة الجزر هذه ( نعمة ) عظيمة على هذا الإنسان الذي كان في قمة المد الروحي نعم .. نعم إنها نعمة عظيمة جدا على هذا الإنسان
من حقه أن يخر ساجدا بين يدي الله سبحانه
سبحان الله .. كيف وقد كان ينعم في رحاب عالية راقية؟؟
تعال لنعرف أولا : ما الحكمة من الجزر .. حتى نعتبره ( نعمة عظيمة ) ؟
أسألك سؤالاً حضرني الساعة
نعم
ايهما أخطر على الإنسان : العُجب …أم ..الوقوع في الفترة والهبوط الروحي ..؟
أو حتى الوقوع في المعصية
العجب طبعا لأنه من أمراض القلوب القاتلة ..
صدقت .. ركز الآن : قال علماؤنا الربانيون :
لو استمر الحال بهذا الإنسان في مده الروحي … فإنه بلا شك سيصل إلى العجب والغرور .. وهذا محبط للعمل ومهلك له .. فمن رحمة الله به أن تصيبه حالة ( فتور ) جزر …….ليعرف قدره..!!
سبحان الله سبحان الله…. راااااائع
نعم …… اقول لك شيء أخطر من هذا ..رأيت فيما رأيت في حياتي من خلال مخالطتي لكثير من الطيبين .. أن بعضهم حين يكون في حالة روحية شفافة .. يصل إلى درجة أن يصبح يرى الآخرين ( همج الهمج ) وما عندهم سالفة !!
وينظر إليهم من عل عالٍ بل يكاد يحكم عليهم أحكام مهولة !!
وهذه قاصمة للظهر والله ………….لماذا ؟
لأنه اصبح يقيس الناس على الوضع الذي هو فيه في تلك الساعة من شفافية
نعم .. شفافية وسمو وتحليق روح وهذه مصيبة المصائب
نسي أنه كان مثلهم بل ربما أسوأ منهم
قال تعالى معلما إيانا هذه المسالة ( كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم )
سبحان الله قضيه نغفل عنها والله ..
ولهذا لابد أن نعيش في أجواء المذاكرة مع أخواننا الطيبين الذين ينبهوننا إلى مثل هذه االقضايا
سبحان الله.. صدقت ..قال تعالى ( وتواصوا )
..فمن رحمة الله العظيمة ….. أن هذا الإنسان الذي كان يرفرف ويحلق …. أن تواتيه حالة ( جزر ) ينكسر معها ..أقول وأكرر : ينكسر معها ، ليعرف قدره … حتى لا يعدو قدره..!!
سبحان الله.. سبحان الله ..
هذه حكمة في غاية الأهمية …. ولا يجب أن تغفل عنها أبدا بعد الآن ..
وحكمة أخرى …لا تقل أهمية … من الأولى
صحيح .. ما هي الحكمة الثانية
أسألك سؤالاً : لماذا لم نعد ننبهر بطلوع الشمس .ثم غروبها … وببزوغ الفجر زحف النهار ثم انكساره .. وتراجعه أمام زحوف عساكر الليل
لماذا هذه المشاهد الرهيبة المبهرة لم تعد تحرك فينا ساكنا ؟
لأنها أصبحت شيء روتيني ويومي
حلو ….. يعني تبلدت المشاعر بسبب طول الألفة
أها فهمت قصدك
… ماذا فهمت
إن ظل الإنسان يتعبد ويتعبد سيصبح الأمر عنده روتيني ، أي أن إحساساته السماويه ستنطفئ أي انه سيفقد البريق الذي أحس به في بداية المشوار مع الله
جميل .. ما شاء الله… ولكني أريد أن أعيد طرح الفكرة بأسلوب آخر قريب وليس بعيد مما ذكرت ..ولكن اشهد أنك أصبت الهدف
ومنكم نتعلم.. تفضل ..
دعني أعيد طرح القضية بشكل آخر ..وهو نفس فكرتك
نحن حديثنا عن الحالة القلبية الروحية الشفافة ……. هذه الحالة اذا استمرت ودامت .. سيعتادها الإنسان .. وتصبح شيء لا معنى له مع مرور الأيام .. ولن يجد حلاوتها ولا روعتها ..
فحين يواتيه حالة جزر ….. بعد مد روحي ……ستبقى روعة وبهجة وحلاوة هذه اللحظات حية متجددة كلما وافته من جديد
سبحان الله ،، رائع والله .. أنت تدندن جول الحالة الروحية ..وأنا كلامي عن حلاوة العبادة بشكل عام ..
وهناك حكمة ثالثة ..سؤال ؟؟متى يعرف الإنسان قيمة الصحة .وروعتها ؟؟؟؟؟
حين يمرض ويفقد قوته وتذهب صحته ..
رائع .. طيب … كذلك الحال القلبي لا يعرف الإنسان روعته وقيمته إلا اذا فقده فجأة
وقد يبكي حزنا على فقده ، وقد يبكي شوقا إليه
صحيح.. صحيح …
الحزن على تلك الحالة .. والبكاء شوقا إليها :: من أقوى العلامات على صحة هذا القلب وسلامته لأنه لو لم يحزن على فقدان تلك الحالة .. ولم يشتق إليها ….
فمعنى ذلك أن قلبه مريض مرضا خطيرا
سبحان الله
بل لعل هذه علامة أنه كان متوهما أنه يستمتع بالإقبال على الله
صحيح والله
فالبكاء حزنا عليها. أو شوقا إليها.. من أقوى العلامات على صحة هذا القلب وسلامته
رااااااااااااااااااااااااااااائع
اذن نفهم من هذا ….. حكمة رابعة ظهرت فجأة
وهي : أن حالة الجزر تعد مقياسا نقيس به صحة قلوبنا أو مرضها
مؤشر ….ترمومتر ………….وحكمة خامسة
.. هات.. هات ..بارك الله فيك ..أشعر أن قلبي ينتعش مع حديثك المعطر هذا !
لنتخيل أن هذا الإنسان أنت مثلا … ظل في حالة سمو وتحليق وشفافية راقية عالية .,… فإن هذا سيسبب له مشكلة من حيث لا يعلم..
كيف ؟ وأي مشكلة تقصد.؟!
هذا الإنسان وهو في هذه الحالة ….. لن يزل أو يهفو أو يعصي أو يقع في عثرة …. لأنه في حالة أقرب إلى حالة الملائكة ( افتراضا ) ..
طيب ….. الله يقول ( إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ) وهذا الإنسان لن يدخل في هذه الآية
كيف ، يبدو أني لم افهم ما تعني ؟!
التواب صيغة مبالغة… وهو من يخطئ ثم يتوب .. ثم يعود للخطأ ثم يتوب مجدا وهكذا .. هذا الإنسان ( يحبه ) الله ولكن ذلك الإنسان لا يكون منه زلل !!
اللله …راااااااااائع.. راااااااااائع…. راااااااااائع
اذن ….. حالة الجزر ….ستجعلنا نندرج برحمة الله في أمثال هذه الاية ( إن الله يحب التوابين ) …….. وأمثالها وهي آيات كثيرة في كتاب الله..
سبحان الله
ومن ثم : أليست حالة الجزر في هذه الحالة رحمة من الله ونعمة عظيمة ؟؟
بالفعل هي كذلك والله ..
وحكمة سادسة .. لو استمر الحال الصافي الراقي الشفاف مع هذا الإنسان من خلال إقباله على الله تعالى … وكلما اشتد اقباله عظمت حالة المد الروحي معه ..
ثم يجد نفسه في حالة جزر فجأة .. وربما حالة جزر شديدة .. بعد حالة مد قوية
اتعرف ما معنى هذا ؟؟
ما معناه
قالوا : معناه .. كأن الله يقول له ……ليس الأمر بيدك …. وإنما هذا عطائي لك .. فاعرف قدرك …بمعنى..حتى لا يظن هذا الإنسان .. أنه لأنه مقبل على الله .. ولأنه فعل .. ولأنه أدى .. ولأنه قدم .. ولأنه ولأنه وبما أنه …..حتى لا يدعي ما ليس له .. كثيرون نجدهم يردون في بلاهة : أنا ، وأنا ، وأنا ..ولأني !!!!
كلا …… بل ( يقهره ) الله رحمة به ….. حتى يعرف أن الأمر مرده كله بيد الله
وهذا له فائدة جليلة جدا… هي :أنه يزداد عبودية لله سبحانه ..يزداد انكسارا
سبحان الله.. سبحان من فتح عليك بكل هذه المعاني المبهرة ..
ما شاء الله ،، تبارك الله …
ومن هنا : يزداد افتقارا .. يبقى يصيح على وجل : يا رب لا تتركني
ياااااا رب لا تكلني إلى نفسي طرفة عين وإلا سأضيع
يااااااا رب ارجوووك …لا تتركني فريسة للشيطان فإني أمسي كالبهيمة اذا ابتعدت عن الراعي تمكن منها الذئب وهكذا ….. سيزداد فقرا وانكسارا وتذللا بين يدي الله
وهذه الحالة التي يمر لها الآن ..أحب إلى الله من الحالة التي كان فيها ( حالة المد ) يمر بها
سبحان الله … كلام طازج ومعاني رائعة .. بارك الله فيك ..
ولهذا قال بعض العارفين ….. من الناس من تصبح عنده حالة الجزر أروع وأفضل بكثير من حالة المد لأنه في حالة الجزر يتحقق ( بروح ) العبودية لله
ياااااه .. سبحان الله.. سبحانك يا رب ..
ذل ..انكسار… فقر ….. حاجة…. بكاء …. وقوف على باب الله .. ضراعة …
ولهذا قالوا:رب ذنب أثمر ذلا وانكسارا وافتقارا .. أحب إلى الله من طاعة أثمرت عزا واستكبارا
دعني أتملى وأتمعن في هذه الحكمة الرائعة .. دع قلبي يتشرب معناها..
الحكمة السابعة : لعلها مرت بنا بشكل أو بآخر ….هل أطلت عليك ؟ هل نكتفي
لا عادي إذا ما فيه ازعاج لك.. أنا مستأنس لما اسمع ..
الذي يهمني ..أنك انتفعت واستفدت .. واثمر معك هذا الحوار .. ووجدت له صدى
أخي صدقني ، هذا الحوار كنت احتاجه من زمااااااان
اذن احتفظ به .. واعد قراءاته عشرات المرااات .. واحرص على نقله إلى غيرك … بأسلوبك .. المرة بعد المرة ..بعد المرة ..حتى تصير هذه القضايا جزءاً من دمك تجري في عروقك
ان شاء الله. أعدك بذلك … حتى لا يخدعك الشيطان اذا رأيت نفسك في حالة جزر ( مهما اشتد ) بعد حالة مد طيبة ذكّر نفسك بهذه المعاني افتح هذا الحوار وأعد قراءته ..المهم
لا سيما وأنا أجد الآن صداها في قلبي.
.. نعود للحكمة السابعة.. قلت .. لعلنا تعرضنا لها أو لقريب منها فيما مر بنا من كلام .. سؤال ….كم عدد فصول السنة؟؟ تلاحظ ملاحظة عجيبة ……
أن الربيع …… يأتي بعد ( الخريف ) ..كذلك حالة القلب
بالفعل سبحان الله
حين يلم به ( خريفه ) فعلى الإنسان أن لا يصاب بحالة يأس ..
بل عليه أن يتهيأ لولادة الربيع من جديد عليه أن يسعى أن يهيئ الظروف المواتية ليستعجل قدوم الربيع إلى قلبه ،المهم ..أن لا ييأس وفائدة أخرى ..
لماذا لا يكون الجو كله ربيعا جميلا طيبا معطرا … يعني فصل واحد لا يتغير
أولا …. هذا التلون ……إبداع وايما إبداع …
شتاء ثم صيف … وخريف ثم ربيع … إبداع يدير العقل
كذلك ابداع الله في قلب الإنسان اشد روعة وأعجب ولكن أكثر الناس لا يعلمون
كل الفصول تحل فيه وتتقلب هناك.. عرفها من عرفها وجهلها من جهلها
العارفون هم الذين يكونون في حالة مراقبة مستمرة لقلوبهم
فيعرفون ( تقلبات ) الجو فيها ، وعلى ضوء ذلك يتحركون
سبحان الله
وشيء آخر : لو كان الجو كله ربيعا …. لاعتاده الناس .. وملوووه وزهقوا منه ..ولكن غياب الربيع … يجعلهم في شوق إليه مرة أخرى ويعرفون قيمته واثره
ثم إنها سنة الله .. ولن تجد لسنة الله تبديلا ..
بقى أن أقول اموراً سريعة ..قد تتعجب أن هناك حديثا شريفا يتناول هذه القضية بعينها
سبحان الله
قال صلى الله عليه وسلم: (لكل شيء شرة ولكل شرة فترة فمن كانت فترته إلى سنتي فقد هدي ….) فالشاهد من هذا أن كل شيء له فترة قوة، وهي معنى ( شرة ) وقد تأتي فترة ضعف وفتور، فإذا لم يصل الفتور إلى ترك الفروض المفروضة فهو شيءٌ طبيعي ما لم يستمر هذا الحال ويصبح طبيعة مستمرة للإنسان…….
جميل .
الشاهد هنا : ( شرة … فترة ) نفس المعنى الذي كنا ندندن حوله ( مد ..جزر )
والآن : خذ هذه القاعدة العمرية : قال عمر الفاروق رضي الله عنه :
إن للقلب إقبالا وإدبار ….فإن كانت ساعة إقبال القلب فاحملوا عليه
وإن كانت ساعة إدباره …. فاحتالوا أن تبقوا في حدود الله ولا تتجاوزوها …
معنى ما قال رضي الله عنه
سأقوم بتلخيص هذه النقاط في ورقة أعلقها بقربي حتى لا أغفل عنها
أحسب أني بهذه القاعدة … أكون وصلت إلى آخر محطة في هذه الرحلة الشائقة الممتعة .. ولقد قرب الآن موعد الصلاة ..
حوار اليوم من أروع ما سمعت ..
جزاك الله خير الجزاء ، وبارك الله فيك .. .. سأدعو لك ما حييت ..في أمان الله ..
ابو عبدالرحمن
-------------
للفايدة