الكنـــــــــــز الضــــــائــــع
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين وبعد فإن نعم الله عز وجل لا تحصى وآلائه لا تعد على الانسان كما قال تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا). وهذه النعم كثير منها ظاهر مشاهد محسوس يشعر بها العبد ويكثر من ذكرها والثناء بها على مسديها والمنعم بها. لكن هناك بعض النعم غير مشاهدة ولا محسوسة لا يشعر بها ولا يدرك قيمتها إلا خواص الناس وعقلائهم لخفائها وكثرة وقوعها.
ومن هذه النعم العظيمة التي لا يفطن إليها نعمة الوقت فهو كنز ثمين ضائع عند كثير من الخلق ومفقود عند أهل البطالة والكسل كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ).رواه البخاري.
إن كثيرا من الناس اليوم مضيع لقيمة الوقت غير مكترث بأهميته يقضيه باللهو والكسل والنزهة واللقاءات الفارغة من كل فائدة وإذا تأملت في حياته لم تجد أي برامج أو أنشطة مفيدة.
أسباب تضييع الوقت والاستخفاف به:
1- الجهل بقيمة الوقت وقدره وعظم منزلته.
2- عدم إدراك منافعه والآثار الحسنة المترتبة على استغلاله.
3- عدم معرفة حقيقة الدنيا والركون إليها.
4- طول الأمل والاغترار بالصحة والغنى.
5- نسيان الموت والذهول عن أهوال القيمة وأحوال الآخرة وشدة الحساب.
6- رفقة أصحاب السوء وأهل البطالة الذين لا يقيمون للوقت وزنا ولا يحسبون له أي حساب.
إن من أعظم البلاء على المرء أن يكون مضيعا لوقته مفرطا لساعاته سائر الأحوال لا يشتغل بتحصيل أمر يعود على إصلاح دينه وتزكيته ولا بأمر يعود بالنفع على دنياه وتراه يلهث وراء شهواته وباطله كالبهائم. قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إني لأمقت الرجل أن أراه فارغا ليس في شي من عمل الدنيا ولا عمل الآخرة).
وأعجب من ذلك أن تجد كثيرا من شباب اليوم يحس بثقل الوقت وملله ويشتكي من ذلك ويشعر بالفراغ ويحاول جاهدا أن يقتل هذا الفراغ ويتخلص منه بسفاسف الأمور ولم يدر هذا المسكين هداه الله أن أهل الآخرة يندمون ويتحسرون على كل ساعة ومجلس مر عليهم من غير أن يذكروا الله فيه كما روي في سنن أبي داود
عن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما جلس قوم مجلسا فتفرقوا عن غير ذكر الله عز وجل إلا تفرقوا عن مثل جيفة الحمار وكان ذلك المجلس عليهم حسرة يوم القيامة). وفى حديث آخر. (لا يجلس قوم مجلساً لا يذكرون الله عز وجل ولا يصلون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة). وقال تعالى: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ). وهذا فيمن أضاع وقته باللهو الذي لا فائدة فيه فكيف بمن أفناه في ارتكاب الآثام ومقارفة الكبائر والسهر على معصية الله وتضييع الفرائض.
إن المؤمن الحق يستثمر هذا الوقت فيما ينفعه في دينه ودنياه وليس في حياته وقت فراغ ولا إجازة كما يراه أهل الدنيا فلا ينقطع عن الذكر والعبادة ولو كان في نزهة لأنه مؤمن أن الله سائله عن هذه النعمة ومحاسبه عليها هل أدى شكرها أم لا.
ومن المؤسف أن ترى الناس يستبشرون بانصرام الأعوام وانقضاء الليالي والشهور ويهنئون الآخرين على ذلك وما علم هؤلاء أن هذه الأوقات تؤخذ من أعمارهم وتنقص آجالهم وتقربهم من الآخرة.
قال الحسن البصري: (يا بن آدم إنما أنت أيام إذا ذهب يوم ذهب بعضك). أما أهل البصيرة والحكمة فيوقنون أنها مزرعة لأعمالهم ويعتبرون من تصرم الأعوام وذهاب السنين ويحاسبون أنفسهم ويعاتبونها في الحق فإن كانوا أحسنوا فيما مضى حمدوا الله وإن كانوا أساءوا رجعوا فتابوا وأنابوا.
قال تعالى: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ).
وقال قتادة: (اعلموا أن طول العمر حجة فنعوذ بالله أن نغتر بطول العمر).
قال بعض السلف: (كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره وشهره يهدم سنته وسنته تهدم عمره...كيف يفرح من يقود عمره إلى أجله وتقوده حياته إلى موته).
والناس في استثمار الوقت أقسام:
1- قسم استثمره في إصلاح الدنيا وكسب المعاش وصرف همته وجهده لذلك ولم يلتفت ألبته إلى إصلاح آخرته وفرط في الطاعة الواجبة وأعرض عن ربه فهذا حاله كحال الكفار الذين عمروا دنياهم وخربوا آخرتهم.
2- وقسم استثمر وقته في إصلاح دينه ودنياه لكن صرف جل وقته وجهده في طلب الدنيا والتكثر منها وجعل اليسير لدينه وقام بالواجب منه فهذا على خير وإن كان مقتصد في عمل الآخرة.
3- وقسم استثمر وقته في إصلاح دينه ودنياه لكن صرف جل وقته وجهده في طاعة ربه والتزود من الصالحات والمسابقة في الخيرات وصرف القليل من وقته في إصلاح دنياه والحصول على قوته واستغناءه عن الخلق فهذا هو خير الأقسام وهذه طريقة الأنبياء والصالحين. قال تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا).
4- وقسم لم يستثمر وقته في أمر نافع وضيع وقته في السيئات والأعمال التافهات فلا دينا أقام ولا دنيا أصلح وكان عالة على غيره حملا ثقيلا على أهله فهذا حاله كفقير النصارى الذي ما أصاب دنيا ولا صلحت آخرته وهذا هو شر الأقسام.
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا على استثمار وقته كله ليلا نهارا في طاعة الله ومرضاته يبتدأ يومه بصلاة الفجر ثم يمكث في المسجد يذكر الله ثم ينصرف في قضاء مصالح المسلمين والدعوة إلى الله ثم يصلي الظهر ويقيل ثم يزور أزواجه عصرا يتفقدهم ويمكث عند من كان يومها ثم يصلي المغرب والعشاء في المسجد ويصلي النوافل في البيت ويصلي من الليل ما كتب له ومع ذلك كان مشتغلا سائر الوقت بالجهاد وتعليم الخلق ووعظهم وإرشادهم ونفعهم وقضاء حوائجهم وعيادة مريضهم وإجابة دعوتهم وتفقد ضعيفهم ومواساة فقيرهم وكان يتطوع بالنوافل من صوم واعتكاف وغيره.
وهكذا كانت حال السلف الصالح رضوان الله عليهم يعتنون بنعمة الوقت ويشغلونه بالطاعة ووجوه الخير إلى درجة أن كان أحدهم لا يخاف قدوم الموت عليه لكثرة استعداده له في كل حال.
قال الحسن البصري: (أدركت أقواما كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصا على دراهمكم ودنانيركم).
-----------------
يتبـــــــــــــــــــع