الجود يفقر والإقدام قتال
وفي الوحي المقدس : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) لا والله لا يصل واصل إلى الولاية الكبرى والسعادة العظمى والعبودية الحقة إلا بجهد مبذول ، وعرق مسفوح ، ودم مسفوك وعرض يمزقه الحسد ، وسمعه يشوهها الجناة ، وقلب يبلغ الحنجرة من التهديد والوعيد ، وكبد حرى تشوى على جمر الانتظار ، وقلب مفجوع بويلات المواقف ، وأهوال تشيب لها رؤوس الولدان ، وحتى يختطف النصر بجدارة ، ويؤخذ الكتاب بقوة ، وينال المجد بتضحية ، وتقطف الثمرة باستحقاق ، وتعطى الجائزة بتأهيل ، فآدم يأكل الشجرة ويهبط ويندم ويتوب وينكسر ثم يجتبى ويعلو ويكرم ، ونوح ينوح من عقوق الابن ، وشقاق المرأة ، ومحاربة قومه ، وموسى يتجرع الغصص ، ويقف تلك المواقف التي يهتز لها الكيان ويرتجف من هولها الجنان مع تهم وإيذاء ، وصد ومنازلة ، وحروب وإعراض وإرجاف .
وإبراهيم يعيش حياته جهادا في سبيل الله مع تكذيب والده ، والأمر بذبح ابنه ، وإعراض قومه ، ووضعه في النار وملابسة الشدائد ، والمرور بالنكبات والمصائب .
وعيسى يذوق طعم الافتراء المر ، والأذى المعتمد ، والفقر المضنى .
ثم تختم قائمة الأنبياء وصحيفة الرسل بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فتجمع له هذه النكايات جميعا ليكون أعلى الكل كعبا ، وأثبتهم قدما ، وأسعدهم حظا ، فيموت أبوه وهو حمل ، ثم يتبعه جده وهو طفل ، ثم يلحقه عمه في زمن الضعف ، ثم تتلوه خديجة زمن النصر ، ثم يطرد من مكة طردا ، ويشرد تشريدا مع الضرب بالحجارة ، ووضع السلى على الرأس ، مع قاموس من الشتائم بوصفه بالجنون وقتل الأصحاب ، وموت الأبناء ، وقذف الزوجة ، ومصاولة اليهود ، وتكذيب النصارى ، ومحاربة المشركين ، وتربص المنافقين ، وصلف الأعراب ، وتيه الملوك ، وبطر الأغنياء ، مع مراراة الفقر ، وجدب المعيشة ، وعوز الحاجة ، وحرارة الجوع ، ومعاناة قلة ذات اليد ، فالمرض عليه يضاعف ، فهو يوعك كما يوعك رجلان منا ، شج وجهه وكسرت ثنيته وجرح في جسمه ، ثم كان الله معه في كل ذلك ففاز بالزلفى ونال حسنى العقبى ، بل وصل أشرف المقامات وأجل الرتب .
ويوسف هنا تبدأ معاناته من هذه الرؤيا ، ويستقبل رحلة طويلة ، وشفرا قاصدا بهذه الرؤيا ، لتتحول الأحلام إلى حقائق في حياته ، وتصبح الرؤيا قضايا مصيرية في مستقبله .
ونواصل مع يوسف سجل حياته ، ودفتر عمره وذكرياته ؛ لنرى ماذا سوف يقع ، وما هي النهاية .
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
هذا عقد بين المسلم وربه ، وميثاق بين العبد ومولاه ، أن يصرف العبد كل عبادته الله ـ عز وجل ـ ولا يشرك معه غيره ، وأن لا يستعين إلا بربه جل في علاه ، فمن العبادة والمسألة والطلب ، ومن الله العون والتأييد ، وهذه الآية ما سأل )) وهي ملخص دعوة الأنبياء وموجز رسالة الرسل عليهم السلام .
ومعاني القرآن مجموعة في هذه الآية ، فالله أوجب على الخلق ، وهو أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، وأوجب على نفسه لهم حقا إذا فعلوا ذلك وهو لا يعذبهم .
والعبادة التي يريدها الله من الخلق هي : فعل كل ما أوجب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال الظاهرة والخفية ، واجتناب ما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم من ذلك ، والاستعانة طلب العون من الله في كل أمر لا يستطيع عليه المخلوق ولا يقدر عليه إلا الخالق ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لابن عباس : (( إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله )) .
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وثيقة مقدسة يعلنها المسلم في كل ركعة من صلاته فريضة كانت أو نافلة ليذكر نفسه دائما بهذا العهد العظيم ، الذي من أجله خلق الإنسان ، ومن أجله أرسلت الرسل ونزلت الكتب ، وقام سوق الجنة وسوق النار ، ومد الصراط ، ونصب الميزان ، وبعث الخلق من قبورهم ، وحصل ما في صدورهم ، وعرضت عليهم صحفهم ، وأقيم عليهم شاهد من أنفسهم .
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) هي قضية الخلاف بين المسلمين والمشركين ، وهي معاني لا إله إلا الله ، ومن أجلها وقع القتال بين أولياء الله واعدائه ، وحصلت الحروب بين ح-الشيطان ، فما بعث الرسل عليهم السلام إلا من أجل أن يعبد الله وحده لا شريك له ، وما سألت دماء الشهداء إلا ليوحد الله ويفرد بالعبادة ويختص بالتوجيه دونما سواه جل في علاه .
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) سعادة أبدية ونجاة سرمدية بها يتم الصلاح وينال الفلاح وتسهل الأمور وتدفع الشرور ،ولا ينال رضي الله ورحمته وعفوه ومغفرته وعونه وهدايته وتسديده إلا بإياك نعبد وإياك نستعين . ولا تحصل النعم ولا تدفع النقم ولا يحصن من المتالف ويسلم من الصوارف ويحفظ من الكوارث والفتن والمحن إلا بإياك نعبد وإياك نستعين، وهي عاصمة لمن قام بحقوقها من الزلل والتخبط العقدي والهوج الفكري والضلال العلمي والسفه الأخلاقي والانحطاط السلوكي والشطط العلمي؛ لأن في إياك نعبد وإياك نستعين عناية ربانية ورعاية إلهية، وولاية إيمانية، وبركة القرآن.
وهي أعظم فتح يفتح به علي الإنسان، فيكرم ويجتبي من عالم الطين، ويصطفي من دنيا الانحلال والتمزق والاضطراب والضياع والانحراف والذل والخنوع والخيبة ، فيرتقي هذا الإنسان بإياك نعبد وإياك نستعين مكرماً في معرج القبول عند ربه. وفي سلم الوصول إلي مولاه ، وفي درجات الفوز إلي خالقه ، وهذا أعظم مجد وأجل رفعة وأحسن منزلة وأشرف رتبة، ويهون معها المجد الدنيوي الموقت المنقطع الزائل الفاني من منصب أو جاه أو مال أو ولد أو شهرة، فيصبح المسلم بهذه الكلمة عزيز الجانب، قوي الركن، عامر القلب، مطمئن النفس، منشرح الصدر،منبلج الخاطر نير البصيرة، لأنه اتصل بالله، ودخل في نسب العبودية، ولبس تاج الخدمة للأحد الصمد، وحمل راية الولاية، وتشرف بالانضواء تحت علم )إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) صلة بين الأرض والسماء، وبين الضعف والقوة، والفقر والغني، والبقاء والفناء، وصلة بين العبد الضعيف الفاني وبين الله القوي الغني الحي القيوم، فيها يحرر الإنسان من الرق للطاغوت، والعبودية للوثن والاستسلام للشهوات، والوقوع في براثن الغواية، والسقوط في مهالك الردى، وبها يغسل الإنسان من رجس الشرك ونجاسة الجاهلية، وخبث الكفر وأدران الفسق، وأوساخ المعصية ، وبها يطهر ضمير العبد من الخواء ، وقلبه من النفاق، وعمله من الرياء، ولسانه من الكذب ، وعينه من الخيانة، ونفسه من الظلم، فيصبح بإياك نعبد وإياك نستعين عبداً لله مخلصاً مبراً من الشرك نقياً من الوثنية ، معصوماً من نزغات الشيطان محفوظاً من فتنة الشهوات والشبهات.
(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)
إن العبد أحوج ما يكون لطلب الهداية من ربه؛ لأن العبد وحده لا يستطيع أن يهتدي ولا يملك مفتاح الهداية ولا يعرف طريقها ولا يجيد هذا ولا يميز بين الحق والباطل والرشد والغي ما لم يهده ربه سواء السبيل فالذي يملك الهداية هو الله وحده لا هادي لمن اضل ولا مضل لمن هدى. وهو يهدي من يشاء رحمة وكرماً . ويضل من يشاء قضاء مبرماً سبق علمه أنه لا يهتدي. فوجب علي العبد أن يهلج بهذا الدعاء في كل ركعة من صلاته لتصبح المسألة حية في ضميره، سارية في دمه ، ماثلة نصب عينه، ليتذكر دائماً نعمة الهداية إلي صراط الله المستقيم، وهي أجل نعمة تسدى للعبد ، وأعظم مكرمة تمنح لهذا المخلوق، والهداية معرفة الحق الذي بعث به محمد صلي الله عليه وسلم. والعمل به والموت عليه والبذل لأجله والتضحية في سبيله والجهاد لدوام هذا الحق وخلوده وانتصاره وعلوه وعزته.
والصراط المستقيم هو طريق الله الواضح المبين الموصل إلي رضوانه وطاعته ومغفرته وجنته، وهو طريق بينه الله ودل عليه الرسل، وشهدت باستقامة الكتب، ووافقت علي السير فيه الفطرة، ومضي عليه موكب الأولياء، وضوعت به دماء الشهداء، وهو طريق واحد لا ثاني له. فريد لا مثيل له متميز لا شبيه له، وهو مستقيم أقرب موصل إلي الفوز والفلاح والنجاة، واسهل معبر إلي الأمن والسكينة والاطمئنان ، وايسر جسر إلي الرضوان والتوفيق، كل المسالك سواه مضطربة، كل الطرق ما عداه معوجة ، كل السبل غيره متلوية، وهذا الصراط المستقيم لا يهدي إليه إلا ولا يدل عليه إلا الرسل وأتباعهم ، ولا يسلكه إلا من سبقت له الحسنى، ولا يحيد عنه إلا من حقت عليه الغواية ، وكتبت عليه اللعنة ، وحاقت به الخطيئة ، وأوبقة شيطانه ونفسه وهواه.
وهذا الصراط المستقيم مجمل وتفصيل ، اما مجمله فهداية عامة لكل من سار علي هذا الصراط ومضي في هذا الطريق يريد النجاة من غضب الله ولفوز برضوانه، ومفصل هذا الصراط استقامة لا التفات فيها، وقيام تفاصيل الدين وشعائر الملة، وبذل النفس والنفيس لإعلاء كلمة الله وصرف العمر كله في العبودية، وإنفاق ساعات الزمن وأنفاس الوقت في مراسيم الطاعة صلاة وصياماً وزكاة وحجاً وجهاداً وإنابة ومحبة وخشية وتوبة ورهبة ورغبة، مع المحافظة علي سنن المعصوم، والتحلي بأخلاق القدوة الحسنة والتأسي بصفات الإمام الأعظم صلي الله عليه وسلم .
وهذا الصراط المستقيم محطاته ومعالمه ومنازله موصوفة في كتاب الله العظيم وسنة النبي الكريم. بل إن الرسالة كلها والشريعة أجمعها شرح لهذا الصراط المستقيم، والوحي اوله وآخره توضيح وبسط لهذا الصراط المستقيم، والله جل في علاه علي صراط مستقيم ، والرسول النبي الأمي يهدي إلي صراط مستقيم. والقرآن الكتاب المعجزة يهدي إلي الصراط المستقيم.
فجملة أهدنا الصراط المستقيم كلية من كليات الشريعة، وقاعدة من قواعد الإيمان، واصل من أصول الدين، ولهذه الآية وإخواتها عظم قدر سورة الفاتحة، فكانت من السبع المثاني، والشافية والكافية وأم القرآن، وافتتح بها المصحف، وفرضت في الصلاة ، وجمعت فيها الملة، وشفت بإذن الله من الأمراض.
فكم من لديغ للشيطان ذاق ترياقها فتعافي ، وكم من جريح من أسهم الغواية عب من تميزها فتشافي، اللهم أهدنا صراطك المستقيم حتى نعبره إليك لنلقاك وأنت راض عنا، محسن إلينا، لطيف بنا، إنك تهدي من تشاء غلي صراط مستقيم.
قوله: (إِنَّ شَانِئَكَ)
هجوم أدبي كاسح، وتهديه رباني ماحق ساحق، لأعداء محمد صلي الله عليه وسلم وخصومه ومبغضيه، وهذا ذب عن شخصه الكريم ، ودفاع عن مقامه العظيم، فإذا كان المدافع الحامي والناصر هو الله فلتقر عينه صلي الله عليه وسلم بهذا النصر والدفاع والولاية، وشانئه صلي الله عليه وسلم لا يكون إلا كافراً مارداً حقيراً خسيساً؛ لأنه ما أبغضه إلا بعد ما أصابه بخذلان ، وكتب عليه الخسران، وأراد له الهوان،وإلا فإنسان مثل الرسول صلي الله عليه وسلم يوجب النقل والعقل حبه، إذ لو كان الطهر جسداً كان جسده صلي الله عليه وسلم ولو كان النبل والسمو صورة لكان صورته بأبي هو وأمي، فهو منتهي الفضيلة، وغاية الخصال الجميلة، والمستحق للوسيلة ،
وصاحب الدرجة العالية الرفيعة الجليلة، فكان الواجب علي من عنده ذرة رأي، وبصيص من نور ، إذا كان يحترم عقله أن يحب الإمام العظيم لما جمع الله فيه من الفضائل ، ولما حازه من مناقب، ولكن واحسرتاه، علي تلك العقول العفنة، والنفوس المتدثرة بجلباب الخزي، القابعة في سراديب البغي، الراتعة في مهاوي الرذيلة ، كيف عادته مع كماله البشري، ومقامه السامي، فكأنه المقصود بقول الشاعر:
أعادي علي ما يوجب الحب للفتي
وأهدأ والأفكار في تجول
وقول الآخر:
إذا محـــاسني الآتي أدل بها
كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر
------------
يتبــــــــع