عرض مشاركة واحدة
قديم 19-06-2013, 09:52 AM   #2957
الفقير الي ربه
كبار الشخصيات
 
الصورة الرمزية الفقير الي ربه
 







 
الفقير الي ربه is on a distinguished road
افتراضي رد: كلمات مـــــــن القلــــب الــى القلـــــــب

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ)



المطففون صنف من الناس يستوفون حقوقهم من الناس ولا يوفون الناس مالهم بل يبخسونهمن فحقوقهم على الناس وافية كاملة، وحقوق الناس عليهم ناقصة، إن كان الحكم لهم رضوا وقبلوا، وإن كان عليهم نفروا وأعرضوا، لهم مكيلام في الأحكام والأقضية والحقوق، فهم ومن أحبوه محقون دائماً، مبرؤن أبداً، أعرضهم محمية، واشياؤهم محفوظة، وأموالهم محصنة، وسواهم مبطلون، متهمون ، لا حق لهم ولا حفظ ولا رعاية.
إن كالوا أو وزنوا لأنفسهم فالزيادة لهم، وإن كالوا أو وزنوا لغيرهم فالنقص لسواهم، إن حكموا في قضية فالحق معهم، وإن حكموا على غيرهم ظلموا وجاروا، إن جادلوه دائماً، فهو مبطل متعد لا دليل له ولا حجة.
إن كتبوا التاريخ والسير فالثناء لهم، والمدح ينهال عليهم وعلى اشياعهم ، والسب والنقص لمن خالفهم، العالم المقصر إذا احبوه فهو وحيد العصر وفريد الدهر، والعالم المتقن المحقق إذا كرهوه فهو ضعيف واهم، الخطيب الثقيل البارد من أصحابهم مفوه مصقع ، والخطيب البارع الأعجوبة إذا خالفهم فهو ذو عي وبرود وسماجة ، الشاعر الهزيل من شيعتهم فذ باقعة، والشاعر العبقري من أعدائهم متكلف متصنع، إن أحبوا سلطاناً ظالماً فهو عندهم بركة العصر وريحانة الدنيا، وإن كرهوا سلطاناً عادلاً فهو الغاشم الظالم، أدلتهم صحيحة أبداً ضعيفة ساقطة ولو كانت قوية محكمة ، يرون سيئاتهم هم حسنات ، ومناقب غيرهم مثالب، من مدحهم ولو بالباطل فهو صادق وبالحق ناطق، ومن نقدهم ولو بالحق فهو كذاب آثم.
إن أخطأ أحدهم فهو مأجور، وذنبه مغفور ، وسعيه مشكور، وإن أصاب من خالفهم فهو مأزور لا معذور، الورد في بستان من أبغضوه شوك، والحنظل في حديقة من أحبوه ياسمين، إن يكن لهم الحق يأتوا مذعنين، وإن يكن عليهم يتولوا عنه معرضين، يحكمون لأنفسهم قبل سماع الدعوى وعرض الحجة، ويحكمون عاى من سواهم قبل قيلم البينة وحضور الشهود، حبيبهم إذا أخطأ قالوا: التمس لأخيك عذراً، وعدوهم إن اصاب قالوا: لن نستطيع عليه صبراً؛ (أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) .


( فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ )


لما أعرض أهل سبأ عن طاعة الله مزقهم كل ممزق، وقال: فجعلناهم أحاديث، وفي هذه العبارة من قوة الأسر وروعة البيان ما يهز النفس، فكأنه حول هذه الأمة القوية إلى أحاديث فقط تدور في المجالس على السنة السمار.
لك أن تعمم هذا المثل على كل أمة سادت ثم بادت، أما اصبحت اقوالا تدار في المجالس، أما ذهبت قوتها، وسحق جبروتها، ومات ملوكها، ولم يبق إلا مجرد الخبر عنهم فحسب، أين الدول؟ أين الملوك؟! اين الجيوش؟! ذهبوا ولم يبق من ميراثهم درهم ولا دينار، وإن بقي من بيوتهم الألنس، فلم يفصل في هلاكهم وكيف دمروا وماذا بقي من بيوتهم ومتاعهم، وإنما طوي الزمان والمكان، ثم أخبرنا أنه ما بقي منهم إلا الخبر عنهم، وإن حياة تنتهي إلى هذه الخاتمة لحقيق أن يزهد فيها، وأن يرغب عنها.
فبينما تري الأمم دائبة في صنع وجودها ساعية في بناء حضارتها، وإذا بها هباء منثور ليس في الوجود منهم إلا كلمات تخبر عنهم، وهنا وقف أمام قدرة القوي القهار وهو يأخذ أعداءه هذا الأخذ في لمحة الطرف، ثم لم يبق منهم باقية ، ولم يترك لهم اثراً، ثم التفت إلى جمال عبارة القرآن واسرارها، وسرح الطرف في هذا الحسن لتري الإعجاز في الإيجاز، والقوة في الأسر، والمتعة في التأثير، وانظر إلي الواقع، وأسأل نفسك أين الحضارات التي ملأت الأرض، واين الدول التي طبقت الدنيا، تعيش الدول ألف سنة ثم تنتهي فلا يبقي من آثارها إلا كلمات على شفاع السمار، وجمل على ألسنة الركبان:

أعندكم خبر عن أهل أندلس
فقد مضي بحديث القوم ركبان
اقرأ متن ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ) على حضارة تدمر ودمشق وبغداد والزهراء والحمراء وقرطبة وغرناطة، فإذا هي قاع صفصف، أين التيجان والسلطان والهليمان: ( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) ، إن من يتدبر: ( فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ) يعلم هوان الخليقة على الله، وتفاهة من حاد الله، وسخف من حاربه
إن عدتهم وعتادهم وقوتهم لا تواجه من الله إلا بكلمة: كن؛ ليصبح الجميع أحاديث تتلى في النوادي ، وقصصاً تساق في المجامع، فلا قصورهم حمتهم ، ولا جيوشهم منعتهم، ولا أموالهم شغفت لهم.


(وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ)


الصبح آية من آيات الله دالة على بديع صنعه وجميل خلقه، فالصبح له طلعة بهية ووجه مشرق يشع بالجلال والحسن، ومن أراد أن يعرف جمال الصبح فليتأمل قدومه بعد صلاة الفجر كيف يدب دبيباً كالبرء في الجسم وكالمااء في العود ، فإن الصبح يزحف بعد جحفل من الظلام فيطويه أمامه، فكأن الكون وجه تتبلج أساريره، وتشرق قسماته، وترتسم على محياه بسماته، وما أجمل الصبح، قيه يهب النسيم العليل، ويشع النور الهادئ ، والضوء الدافئ، وتبدو الحياة، ويميس الزهر، ويندي الظل، وتتفتح الأوراق، تفتح شفاه المحبين عن أسئلة حائرة، وتتفتق الأكمام تفتق عيون العاشقين عن أسرار دفينة.
في الصباح رجع الصدي، وقطر الندي، وحفيت الهواء، وتمتمة الماء، وتغريد الطيور، وسجع الحمام، وأنغام العندليب ، في الصبح يرتحل الفلاح بمسحاته إلى الحقل ، ويسوق البدوي أغنامه إلى المرعي، ويذهب الطالب إلى مدرسته، والطبيب إلى عبادته، والبائع إلى حانوته، فالصبح أذان معلم بالحياة ، وإعلان بيوم جديد، وملاذ مجيد، لنهار آخر من الجد والعمل والعطاء والنماء.
ولكن أما دعاك هذا اللفظ الشائق في قوله: (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) أما وقفت معه وقفه إجلال للإبداع واحترام للبيان؟ كيف يتنفس الصبح؟ ! سؤال يجيب عنه من قرأ حروف القدرة على صفحات الكائنات، والصبح يوم يتنفس كأنه محزون فقد أحبابه، فخرجت أنفاسه الحارة من أعماقه، أو كأنه مكبوت يشكو آلامه، فانبعثت من حشاياه آهاتاه، أو كأنه مظلوم صهر الظلم قلبه فانفجرت روح بزفراته، أو كأنه مسجون كبلت يداه وقيدت قدماه، فعبر بلهيب توجعه عن معاناته.
وما أجمل أسلوب القرآن، ففي كل ذرة من اللفظ درة، ومن يدري لعل الصبح تنفس بعد ليل طويل قاس من الظلام والهجر والقطيعة، ولعله تنفس تنفس المسرور بلقاء أحبابه، السعيد برؤية اصحابه؛ لأن الصبح مقبل عن نهر جميل ، وحياة دائبة، وحركة نشيطة من الجد والبذل والتضحية ، والمقصود أن هذا الصبح كان مكظوم الأنفاس، مكبوت الحشي، ثم حانت لحظة الانطلاق فتنفس، وأنا أدعو سلاطين البلاغة ودهاقنة البيان وأرباب الفصاحة أن يقفوا خاشعين أمام (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) ليذوقوا لذة الجمال، ومتعة الحسن، ليعلموا سر الإعجاز ، في هذا الكتاب المعجز الخالد، وليدخلوا ديوان عظمة الخالق، ديوان قدرته ليروا جمال المقال، وبديع الأفعال ، من ذي الجلال والإكرام.


(فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)


لا تمدحوا أنفسكم فعلمها عند اللطيف الخبير، ولا تثنوا عليها فإن الناقد بصير، وما أجهل الإنسان إذا زكي نفسه وشهد لها بالفضائل وبرأها من الرذائل، وما اثقل كلامه وهو يستعرض على ربه وعلى الناس مناقبه ويسوق محامده ويذكر حسناته.
إن الذي يزكي نفسه في محل التهمة وفي مقام الربية؛ لأن الإنسان بطبعة ظلوم جهول ، يحب نفسه ويعشق ذاته، ويعجب بصفاته ، فإذا نما هذا الطبع وأعلنه في الناس كان دليلاً على قلة تقواه وضحالة معرفته، وأي شئ عند الإنسان حتى يزكي نفسه وهو بين نعمة لم تشكر، أو ذنب لم يغفر ، أو عثرة لم ظهر، أو زلة من ربه تستر؟
أفلا يكفيه أن الذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره قبل منه القليل، وغفر له الذنب الجليل، واصلح خلله وستر زللـه ، ثم يأتي هذا الإنسان بدعاوى عريضة ونفس مريضة ليخبر ربه الذي يعلم السر وأخفي أنه ذو تقوى ، والله أعلم بمن اتقي، فهو الذي لا تخفي عليه خافية.
وإن منطق الزور ولسان البهتان أوحي إلي إبليس اللعين بتزكية نفسه الشريرة ليقول لربه: )أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) لتكون هذه التزكية لعنة ما حقه وضربه ساحقة لهذا المريد العنيد، وإن الشهادة الاثمة للنفس سولت لفرعون الطاغية ليقول: ) أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصرْ) فاذله القوي العزيز، وأرغم أنفه في الطين.
وإن التزكية المفتراة دفعت بقارون الآثم ليفوه بفرية: ) إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ) ألا فليصمت العيد الضعيف الهزيل، وليسكت المخلوق الفقير، وليخجل العبد المسكين من ربه، وليهضم نفسه، فلولا ستر الله لظهرت الفضائح، ولاولا لطف الله لبدت القبائح، وإن من يتصدر النوادي ليخبر الناس بنسبه الأصيل لهو فاشل، ويحدثهم عن مجده الرفيع لهو أحمق ، ويزكي لهم تقواه لهو مخدوع، ويذكرهم بمناقبة لهو مخذول.
لماذا لا يترك العبد تزكية نفسه لربه، فهو الذي يزكي من يشاء وقوله الحق؟‍!
ولماذا لا يدع الإنسان أعماله تتحدث عنه لا أقواله، وإحسانه لا لسانه؟ وسوف يطهر زيف من مدح نفسه بالباطل، فالناس شهداء الله في الأرض، وألسنة الخلق أقلام الحق، وإن عبداً خلق من نطفة لجدير بأن يصمت، وإن مخلوقاً يحمل فضلاته لحقيق أن يسكت، ونعوذ بالله من لسان حى بالمديح، وقلب ميت بالقبيح، ومن عجب ظاهر، وذنب خفي.
فيامن أخفيت على الناس العيوب، وسترت عن العيوب الذنوب، نسألك صلاح القلوب فإنك علام الغيوب.


(َأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)
تحدث عن جميلينا، أخبر الناس بأيادينا، أعلن نعمنا عليك، لأن الجحود خطيئة والتنكر سيئة ، وكتمان المعروف لؤم ، إن الله يحب من عبده أن يشكره، وأن يثني عليه، وأن يعترف بما وصل من بره إليه؛ لأن الله يحب المدح، فهو أهل له، ويريد الحمد؛ لأنه مستحق له.
ونعم الله تغمر العبد، فإذا قابلها العبد بالحمد والثناء علي مسديها، والمدح والشكر لمهديها بورك فيها، وإذا تنكر لها العبد وجحدها وكتمها محقت وذهب نفعها، والله يلوم الحااسدين من عباده فيقول: )يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا) فهم يعلمون أن مانح النعمة هو الله، ولكنهم لؤماء يتنكرون للجميل، وينسون المعروف، وينسبون الفضل لغير أهله.
ورد في أثر : (( إن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها))، فقال أبو معاذ الرازي معلقاً على الآثر: (( يا عجباً ممن لا يري محسناً إلا الله كيف لا يميل إليه بالكلية))، وقال بعض السلف: ((ويحك يا ابن آدم والله لو كساك رجل ثوباً لرأيت إحسانه وعرفت جميله فكيف بمن كل نعمة وصلتك فمن عنده، وكل خير لك لديك فمن لدنه)) وقال المغيرة: (( إن صاحب الكلب يحسن إلى كلبه فلا ينبحه ويحفظ له وده، فكيف بمن غيرك بنعمة))، وقالوا لعابد في البصرة : (0 كيف أصبحت؟)) قال (( اصبحت في نعم غير مشكورة وذنوب غير منسية)). وفي حديث حسن أنه صلي الله عليه وسلم قال : (( سمع سامع بفضل الله ونعمته علينا)) وقال رجل لملك بن دينار : (( أشكو إليك ديوناً لحقتني وحاجة لزمتني، فقال مالك: ويلك كأنك تشكو الله إلى خلقه وله عندك نعم ما شكرت، وأياد طالما كفرت)).

وقال بعض الشعراء:

وإذا شكوت إلى العبــــاد فـــإنمــا
تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم
وقال الحسن البصري لفرقد السبخي: (( تعال تغدي معنا من هذا الخبيص؛ وهو طعام لذيذ ، فقال فرقد: أنا لا أكل الخبيص لأنني لا أدري شكره، فقال الحسن: قاتلك الله، وهل أديت شكر الماء البارد)).
وكان بعض العباد ينادي: (( سبحان من أعطي الجزيل، ووهب الجليل، ورضي بالقليل ، وستر القبيح من العمل)).
وقال رجل لأحد الوعاظ: (( هل تري لي شرب الماء البارد أو الحار؟ قال: اشرب البارد؛ لأنك إذا شربته أروي عرقك، وإذا شربت الماء الحار قلت: الحمد لله بكزازة، أي: بثقالة ومشقة.
وبالجملة ينبغي إظهار نعمة المنعم شريطة أن لا يكون من باب الزهو والرياء والعجب، مع ملاحظة عين الحاسد فإنها تصيب، وقد جعل الله لكل شئ قدراً.


( كُونُوا رَبَّانِيِّينَ)


تعلموا العلم النافع، واعلموا العمل الصالح ، وعلموا الناس الحكمة، واصبروا على الأذى في ذلك، فإذا فعلتم فأنتم ربانيون.
كونوا مصابيح الدجي، داعة الهدي، الزاجرين عن الردي، الناشرين للفضيلة الناهين عن الرذيلة، المصلحين في الأرض ، المحبوبين في السماء ، فإن فعلتم فانتم ربانيون.
تواضعوا للعباد، ارحموا الناس، أشفقوا على الخليقة، عودوا المريض، فكوا العاني، اطمعوا الجائع، أعطوا الفقير، امنحوا المسكين، انجدوا الملهوف، انصروا المظلوم؛ فهذه أخلاق الربانيين.
وما أشرف وأجل كلمة ربانيين، إنها لكلمة كبيرة في كبيرة في الفم، كبيرة في السماء، كبيرة في الأرض، إنها نسبة إلى رب الناس ، ورب كل شئ، وهو نسب اصيل رفيع، فمن استكمل صفات الربانية وجمعها ووفاها وقدرها حق قدرها فهو رباني، ويكفي العلماء العالمين الصادقين أن يقال لأحدهم رباني؛ فهي أعظم سيرة محترمة لهذا العالم الصادقين أن يقال لأحدهم رباني ؛ فهي أعظم سيرة محترمة لهذا العالم، وأجمل ترجمة خالدة لهذا الإمام، فلا ينسب إلى بلدة ولاقبيلة وإنما ينسب إلى الله رب العالمين: نسب باذخ ومجد عظيم..وصفات أبهي من الإصباح.
أما الرباني، فقال بعض السلف عنه: هو الراغب في الآخرة الزاهد في الدنيا، وقيل: من إذا رايته ذكرت الله وإذا عاشرته تعرفت على الرسول صلي الله عليه وسلم ، وقيل : من حبيبك في الله، وحثك على تقواه، وبصرك الطريق، وردك عن الردى فهو رباني.
ولابد للرباني من إخلاص لا يشوبه رياء، وزهد لا يكدره طمع، وصدق لا يشوهه كذب، وسنة لا تعارضها بدعة، وعزيمة لا يوهنها ترخص، يخضع العقل للنقل، ويطوع الهوى للوحي.
إن من الواجب على طلاب العلم ورواد السنة وأتباع الرسول صلي الله عليه وسلم أن يسمعوا بكل ما أوتوا من قوة إلى مرتبة الربانية ودرجة الإمامة،
ونيل شرف هذه النسبة، والله إن الرجل ليرفع رأسه إذا نسبوه لملك من ملوك الأرض، وإن منهم من يفتخر إذا ألحقوه بوزير أو أمير، أو ذكروا أنه من سلالة شاعر او جواد أو شجاع، فكيف ـ بالله ـ حال من نسب إلى مالك الملك قيوم السماوات والأرض رب العالمين، والله لو تقطعت الأقدام مشياً في رضوانه، وتخددت الوجوه من الدموع من خشيته، وتقرحت الأجفان من الدموع عند ذكره، لكان كل ذلك سهلا يسيراً في سبيله جل في علاه.


( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه)
أخبر الله عن أوليائه الصادقين ، وعباده الصالحين، بأنه يحبهم ويحبونه، وهو خبر تهش له نفس المؤمن، ويشتاق إليه قلب الولى، والعجيب قول: يحبهم فهو الذي خلقهم وأطعنهم وسقاهم وكفاهم وآواهم ثم أحبهم، وهو الذي رباهم وهداهم وعلمهم وألهمهم وأرشدهم ثم أحبهم، وهو الذي أنزل عليهم الكتاب، وأرسل إليهم الرسل، وبين لهم المحجة ، واوضح لهم الحجة، ثم أحبهم، فيا له من فضل عظيم، وم عطاء جسيم.
أما قوله عنهم: (يُحِبُّونَه) فهذا عجيب أيضاً، فكيف لا يحبونه وقد أوجدهم من العدم، وأطمعهم من جوع، وآمنهم من خوف، وكساهم من عري؟
كيف لا يحبونه وهو الذي وهب لهم الأسماع والأبصار، وحماهم من الأخطار، وحفظهم في سائر الأقطار؟
وكيف لا يحبونه وهو الذي وهب الأموال والأولاد، وأغدق عليهم الأرزاق، وساق إليهم كل ما يطلبونه ومنحهم، كل مايسألونه، وأمنهم من كل يخافونه
كيف لا يحبونه وقد سخر لهم ما في البر والبحر، أرسل لهم السماء بالماء، وشق لهم الأرض بالنبات ، وجعل الأرض بهم فراشاً وذلولاً ومهاداً ، والماء بناء ، ورزقهم من الطيبات ، واصناف الثمرات، ومختلف المطعومات، وسائر المشروبات؟
كيف لا يحبونه وهو الذي أنزل عليهم القرآن، وعلمهم البيان، وهداهم إلى الإيمان ، وحذرهم من كيد الشيطان.
وما أجمل المقابلة بين قوله: ( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه) فهو حب بحب أزكي من حب الرب، فليت من له مقام في دنيا المحبين أن يتذوق هذه اللفظة المشرقة، وأن ينقلها رسالة قوية لعشاق الفن محبي العيون السود، والخدود والقدود؛ ليعلموا أن حبهم منقوص هابط، وحياتهم ذازية ذابلة، وقلوبهم خاوية خربة، ونفوسهم ظالمة ظامئة، وبصائرهم كسيفة كليلة، أما حب أولياء الله فهو الحب الصادق الصائب الطيب الطاهر الزكي النافع.
والله إن من أجل مطالب لقوي السوي وصوله إلى رتبة ( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه) .
وإن من أعظم العطايا وأشرف المواهب لهي عطية وموهبة: يحبه ويحبونه، كل حب غير حب الله مقطوع، وكل عمل غير عمل الله ضائع ، كل السعي لغير مرضاته باطل، كل تعب في غير مرضاته عناء:
سهر الهيون لغير وجهك ضــائع
ورضي النفوس بغير حــبك باطل
فيا من خلق خلقاً ثم رزقهم ثم هداهم ثم أحبهم اسألك أن تجعلنا من أحبابك، وخالص عبيدك، وصالحي أوليائك؛ فإنك أهل للإجابة، معروف بالإحسان ، مقصود لكل مطلوب.


( لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)
هذه آية الفرج ما قالها عبد مكروب إلا فرج الله عنه، بذلك صح الخبر. وفيها أسرار عظيمة ورسائل مهمة، لكن لمن له قلب أو ألقي السمع وهو شهيد.
ففي هذه الآية إقرار بالتوحيد، وإثبات للتنزيه، واعترف بالذنب، وهي أركان ثلاثة عليها تقوم العبودية وبها ينال ما عند الله من لطف ورحمة ورزق وهداية ، ولهذا فرج الله عن يونس عليه السلام لما قالها، ويفرج عن كل من قالها من المؤمنين لقوله تعالي: ) وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) فركن التوحيد في: لا إله إلا الله، وركن تقديس الرب وتنزيهه في: سبحانك ، وركن الاعتراف بالخطيئة في: إني كنت من الظالمين.
فلا إله ألا أنت، اعتراف بألوهيته سبحانه وكماله وتفرده بكل وصف حسن، وسبحانك نفي النقص والعيب عنه، إني كنت من الظالمين، اعتراف من العبد بالتقصير والخطأ.
فكأن العبد نسب كل مدح وجود إلى ربه ونزهه عن كل شين، وقدح لا يليق به، ثم اعترف هذا العبد بظلمة وعدوانه فكانت هذه الكلمة بحق من أغلى الكلمات واثمنها في ميزان العبودية.
وما من عبد إلا وتمر به كارثة، أو يلم به خطب، أو تقع عليه شدة، فإذا قال هذه الكلمة بقلب حاضر خاشع مخبت أنقذه الله من كل ما أهمه، وفرج غمه ، وأزال حزنه وكشف كربه.
والله عز وجل في كتبه وعلى ألسنة رسله أوجب توحيد على عباده، ونزه نفسه، وأخبر بظلم العبد وكفرانه وتمرده، فجاءت هذه الآية متضمنة هذه المعاني في أحسن وأجمل خطاب وأزهي حلة، حى إن بعض الصالححين كان يعكف بقلبه علي هذه الكلمة ترداداً وتكراراً فيجد من الأنس والراحةوالأمن والانشراح ما يفوق الوصف، وقد شرحها شيخ الإسلام؛ فأحسن وأجاد، ووردت في فضلها آثار، وكان يوصي بها الصالحون من أحبوا، ويكفي في فضلها قوله صلي الله عليه وسلم : (( كلمة أخي ذي النون ما قالها مكروب إلا فرج الله عنه)).
فالواجب على العبد أن يعطي كل أصل من اصولها الثلاثة ما يستحق، فاصل القول اعتقاده، والعمل بمقتضاه والتبرء بما يضاده، واصل التنزيه عدم عدم نسبة المشابهة والمماثلة له سبحانه بخلقه، أو وصفه بغير ما وصف به نفسه، أو تحوير كلامه والإلحاد في أسمائه وصفاته، وأصل الاعتراف بالاقتراف تحقير النفس، والنظر إليها بعين الازدراء والمقت، فإن هذا العمل يقطع من المسافات ـ أعني احتقار ونفي العجب عنها ـ إلى الله ما لا يقطعه صيام الهواجر، وقيام الليال ، وهذا مراد العبودية وبابها الأكبر وسرها الأعظم والله أعلم.


( كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)
الله واحد أحد في ربوبيته والوهيته واسمائه وصفاته وأفعاله، لا يشبه المخلوق ولا يشبهه المخلوق، لا يماثله أحد، ليس في ذاته شئ من مخلوقاته ولا في مخلوقاته شئ من ذاته، متفرد سبحانه فليس له سمي يسمي باسمه، ولا يحق لأحد أن يتصف بصفاته، ولا يصح لمخلوق أن ينازعه الألوهية ، او يساميه في الربوبية، أو يدعي لنفسه بعض صفات ربه جل في علاه، وإن أحسن وصف واصدقه ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله صلي الله عليه وسلم .
فالواجب الوقوف علي هذا، فإنه لا يعلم ما يستحق من التعظيم والتقديس والتنزيه إلا هو سبحانه، واعلم الناس به من الخلق رسوله ومصطفاه صلي الله عليه وسلم ، فمن أخذ وصف الله أو الخبر عنه غير الكتاب والسنة فقد ضل سواء السبيل، وإنما أخطأ من أخطأ من الطوائف المبتدعة والفرق المنحرفة لأنهم تركوا الوحي وكلام المعصوم وحكموا عقولهم السخيفة وآراهم الضعيفة في الغيبات؛ فأتي كلامهم فجاً معوجاً مضطرباً.
وهدي الله اتباع رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى قوله الحق واعتقاده ، والله لا يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
هذه الآية ترد على أهل التشبيه والتعطيل والتكييف والتمثيل من اشاعرة وماتوريديه ومعتزلة وجهمية ، فهي ـ أي هذه الآية ـ تنفي عن الله كل وصف نفاه عن نفسه، وتثبيت كل صفة جميلة أثبتها الله لنفسه أو رسوله صلي الله عليه وسلم ، ولما نفي المشابهة واللماثلة عاقب بإثبات صفة السمع والبصر له سبحلنه ، لأن النفي المحض ليس مدحاً بل ينفي النقص ويثبت له الكمال ، فليس في النفي نقص وليس في الإثبات مشابهة أو مماثلة ، بل في النفي تنزيه عن العيب ، وفي الإثبات محجة بالجميل من الوصف، وهذه الآية هي عمدة أهل السنة في الرد على كل مبتدع ضال ومنحرف جاهل.
وانظر كيف عم النفي ليكون شاملاً، وذكر صفتين في المدح؛ لأن صفات مدحه كثيرة، ومنهج الوحي في وصف الله تعالي النفي المجمل إلا ما اقتضته الحاجة والإثبات المفصل إلا ما دعي إليه المقام فكل صفة لم يرد بها النقل مردودة ، وكل مشابهة أو مماثلة في الصفة الواردة ممنوعة، وكل سلب للصفة الثابتة مرفوض؛ لأن أهل الضلال أقسام، منهم من سلب الخالق كل صفة؛ فجعله والجماد سواء، وهذا اعتداء، ومنهم من وصف الخالق بصفات من عنده لم يأت بها النقل وهذا خطأ، ومنهم من أثبت البعض ونفي البعض وهذا تحكم مرفوض، ومنهم من اثبت وشبه فزل وضل، ومنهم من اثبت ومثل فجازف وجانب الصواب، وهدي الله أهل الحق إلى إتباع النقل والآثر ، فاصابوا واحسنوا والحمد لله رب العالمين.
---------------
يتبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـع

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التوقيع

اذكروني بدعوه رحمني ورحمكم الله
سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم



أخر مواضيعي
الفقير الي ربه غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس