عرض مشاركة واحدة
قديم 20-06-2013, 02:09 AM   #2964
الفقير الي ربه
كبار الشخصيات
 
الصورة الرمزية الفقير الي ربه
 







 
الفقير الي ربه is on a distinguished road
افتراضي رد: كلمات مـــــــن القلــــب الــى القلـــــــب

إن طال لم يملل وإن هي أوجزت ود المحدث أنها لم توجـز

والكلمات الجميلة هي التي نقشت في أذهاننا وكتبت في قلوبنا، فبقيت وعاشت : أقرا كلام علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ فأكرره كأنني اشرب زلالاً بارداً حلواً علي ظمأ في قيظ، حتى عقد له ابن كثير في تاريخه فصلاً عنوانه: باب في كلماته الحاصلة التي هي إلي القلوب واصلة، ولما افتتح البخاري كتاب الرقاق من صحيحه ذكر قول علي: (( إن الدنيا ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة ارتحلت مقبلة، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب بلا عمل)) فأنظر إلي هذا الإيجاز مع قوة المعني وحسن الفواصل ، وبراعة الإيراد، وجمال العرض.
ولما بدأت في مطالعة ( الكشاف)
للزمخشري بدأ ليصلي علي النبي صلي الله عليه وسلم فقال: والصلاة والسلام علي حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي، صاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل...إلي آخر الكلام الجزل الفخم ، ولحسنه حفظته.
عن أول طبعة لمصنف ابن أبي شيبة طبعت في الهند، قدم لها أحد علماء الهند مقدمة باردة سامجة متفككة متهالكة، حتى صارت مصدر نادرة في المزاح، وما هذا إلا لأن الرجل يكتب بغير لسانه، وما غاص في مفردات اللغة العربية، وما تمتع بجمالها فهو غريب، وإنك لتسمع العالم يفتي، والمعلم يدرس، والخطيب يتحدث، والشاعر يلقي، فتعرف قوة هؤلاء من ضعفهم وبيانهم من عيهم من أول وهلة؛ لأن الكلام الباهر الجميل الساطع لا يخفي حسنه، ولا يجهل قدره.
إن أساطين البيان حفروا كلماتهم في ديوان التأريخ، وذاكرة الأجيال لأن الإبداع له خلود، والتفوق له ذيوع، والتفرد له امتياز.
قال أحد الخلفاء لبليغ: ما البلاغة؟ قال هي: أن لا تبطئ ولا تخطئ. قال مثل هذا؟ قال مثل هذا؛، وانظر كيف أوجز وأعجز . فما أسرع جوابه وأحسن صوابه.
ومدح رجل علياً ـ رضي الله عنه ـ وكان يبغض علياً ـ فقال له علي: أنا فوق ما في نفسك ودون ما تقول، وقال له رجل : لماذا اتفقت الأمة علي الشيخين، واختلف عليك، قال لن رعيتهم أنا وأمثالي ، ورعيتي أنت وأمثالك ! فقل لي بربك أي جواب هذا الذي كأنه أعده من شهر.
لقد حرمنا متعة البيان بسبب هذا الهذيان، كلام طويل ثقيل وبيل، وتكرار وتبذل، حتى إنك لتسمع الخطيب يتكلم ساعة كاملو ولو جمع ما قال في خمس دقائق لأحسن إلي نفسه وإلي السامعين.
إن السيلان الخطابي، والثرثرة في الحديث شيء ، والبيان والبلاغة شيء آخر ، إن البيان هو أن تصيب المحز وتشفي النفس وتبلغ حجتك.
ولولع النفس بالبيان ، وتعلق القلب بالفصاحة؛ سافرت مع أبى الطيب المتنبئ لجمال شعره وروعة بيانه،وجزالة لفظه، وبراعة عرضه، وأما مبادئه ومذهبه في الحياة فلنا معه حديث آخر في هذا الكتاب.

مملكة البيان (ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ)


(الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) فصار هذا المخلوق بالمنطق آية باهرة علي عظمة خالقه، وصار بالبيان مخلوقاً كريماً يقول الكلمة فتخلب الألباب، وينطق اللفظة فتدهش العقول، يصوغ من الحروف سحراً، ويجري من الجمل نهراً، يهدي الجموع الثائرة بخطاب، ويحرك القلوب الخامدة بموعظة وإن العبارة البليغة الباهرة لهي أجمل من اللوحة الهائمة في الحسن وإن الجملة الموحية الآسرة الأخاذة لهي أبرع من ريشة الرسام العبقري، وإن أهل العقول الراشدة السوية يجدون في مطالعة البيان من المتعة واللذة ما لا يجدونه في مشاهدة الخمائل المائسة، والجداول الرقراقة.
واعلم أن قوت القلوب موائد من المعاني الجميلة الخلابة، وإن زاد النفوس لهو مدد من البينات، وإن معين الأفئدة الرقراق لهو عين من الإبداع في القول يشرب بها النبلاء يفجرونها تفجيراً.
إن من أعظم أوصاف رسالته صلي الله عليه وسلم أنها ذات بيان باهر ، وبلاغة فائقة، وتأثير عجيب، ودونك هذا القرآن الكتاب الخالد، والمعجزة الظاهرة، التي شدهت العقول، وهزت الأنفس، حتى أنصتت لها البصائر بإمعان، وأخبتت لها الأرواح في خشوع، فاهتزت لهذا البيان، وربت بهذه البلاغة ، وأنبتت من كل زوج بهيج من الإيمان والعطاء والتضحية.
كان رسولنا صلي الله عليه وسلم افصح الناس مل الناس، وأبلغ البشر جميع البشر، فجاء خطابه غيثاً هنيئاً مريئاً، يهجم علي القلوب القاحلة فإذا هي حدائق ذات بهجة ببركة هذا الكلام، فصارت جملة صلي الله عليه وسلم حديث السمار، وزاد الركب، اشهر من الأمثال ، وآنس من العافية، وأجمل من طلعة الفجر الباهية، ولأن المتفوقين من الناس والبارعين من العقلاء يطربون لأسرار إعجاز في البيان، ولطائف الإلهام في القول، ونكات الفصاحة في الحديث، ولقد أمر الله تعالي رسوله صلي الله عليه وسلم أن يهز الأنفس بالقول المؤثر فقال: ( وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً)(النساء: الآية63)فبالقول البليغ تقوم الحجة، وتتضح المحجة، ويقذف بالحق علي الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.
وقد أحببنا أن نسافر مع الكلمة الشاردة الفريدة، والجملة الناصعة المشرقة والقول الفصيح الجذاب فاخترنا شاعراً لامعاً وأديباً باقعة، وعبقرياً فذاً، تجذرت كلماته في قلوب رواد الإبداع ، وغاصت إشراقاته في نفوس محبيه، هذا من حيث جمال شعره، وروعة قصائده،وسحر بيانه، وأما من حيث مذهبه ومنهاجه في حياته فلنا معه وقفات ومؤاخذات ، لا نظلمه ولا نهضمه، ولا نفرط عليه ولا نطغي، بيننا وبينه ميزان الإنصاف، لا يضيع حبة خردل من الحقيقة، وأمامنا وأمامه كتاب المروءة والعدل، لا يغادر صغيرة من الإبداع ولا كبيرة من جواهر البيان إلا أحصاها.
فمرحباً بملك الشعراء في مملكة البيان، ونحييه بقوله هو:
يا فخر فإن الناس فيك ثلاثة
مستعظم أو حاسد أو جاهل
وإذا أتتك مذمتي من ناقص
فهي الشهادة لي بأني كامل

وسوف نقرأ المتنبئ قراءة المتلمس للبيان، المشغوف بالحسن، المتلهف علي الإبداع ، وهو الذي يقول لنا:
لا تعذل المشتاق في أشواقه
حتى يكون حشاك في أحشائه
وقد أبدع في هذا البيت، وإليك بسطه بالنثر، فهو يقول لك: أرجوك لا تثرب علي المشتاق المحب في تلهفه وتوجعه واحترافه، ولا تلمه علي زفراته والتهاب حشاياه ، واضطراب جوانحه، فإنه معذور بما يحمل من حب، وما يجد من صبابة، فما دام انك لم تذق ما ذاق من اللوعة والأسى، فلماذا ـ رعاك الله ـ تلومه وتؤنبه؛ لأن حالك غير حاله.
ونحن في قراءة شعر المتنبئ نجد من هذه اللوعة والاشتياق والتأثر ما نرجو معه أن يعذرنا لائمونا، ولا يثرب علينا أحد من الناس هذه النزعة الأدبية، والغرام البياني مع كل لفظ جميل ساحر.
المتنبئ
تجاوزنا السيرة الذاتية، وتخطينا التراجم التقليدية، ووصلنا إلي نتاج هذا الشاعر مباشرة؛ فالمتنبئ عندي ملك الشعراء؛ لأن للشعر وزيراً وأميراً وقاضياً وفقهياً ، ولكن مملكة الشعر لملكها احمد بن الحسين المتنبئ لمجموع محاسنه، وكلية إبداعه، وقد يفوقه في قصيدة أو بيت واحد غيره من الشعراء، لكن مجموع شعره لا يفوقه فيه شاعر ولهذا يقول:
أنا السابق الهادي إلي ما أقوله
إذا القول قبل القائلين مقول
وهذا الشاعر انصهر مع الكلمة، وذاق البيان، وأشرب في قلبه الفصاحة فذابت حشاياه، وغلت مراجل فكره بجواهر من القول فاقت الوصف، والذي يعجبك في المتنبئ هذا الاحتراف والإشراق، فهو محترف بهمومه وهمته وطموحاته، مشرق بعبقرية وإبداعه ونبوغه، وهو كما قال في ممدوحه:
وإن تفق الأنام وأنت منهم
فإن المسك بعض دم الغزال
ولك أن تقف أمام هذا البيت الذي يغنيك عن إسهاب من القول، وحواش من الحديث ، فهو كما يقول لممدوحه: إنك وإن تفوقت علي أقرانك ، وتفردت بصفاتك عن بني جنسك، وتميزت هذا التميز المنقطع النظير ، فلا غرابة في ذلك ، فإن المسك علي ندرته وشرفه وطيب رائحته وارتفاع ثمنه؛ من جنس دم الغزال.
البطاقة الشخصية:
أنا الذي نظر الأعمى إلي أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم

هذه ترجمة موجزة للمتنبئ ، فليس يهمنا معرفة اصله وفصله ونسبه وحسبه، بل نريد إبداعه ولموعه كما قال الشاعر:
أنا لست مهتماً بأصل قبيلتي
ورائي قريش أم ورائي تغلب
فليست بلادي ببرقاً أو خريطة
ولكن بلادي حيث اسطيع أكتب

فهو يقدم لنا نفسه بهذا البيت علي أنه موهوب ، فرض نفسه علي الناس بشعره وأدبه حتى إن الأعمى الذي لا يبصر شيئاً نظر إلي أدبه، لقوة تأثيره، وسطوع تعبيره، وبلاغة تصويره، والأصم الذي لا يسمع شيئاً أنصت لكلماته النافذة الأسرة الباهرة.
أما شعره ، فيكفيه أن الدهر أحد رواة شعره، والأيام والليالي أصبحت تردد هذا الإبداع وتغني هذا السحر الحلال:
وما الدهر إلا من رواة قصائدي
إذا قلت شعراً اصبح الدهر منشداً
فسار به من لا يسير مشمــراً
وغني به من لا يغني مفـــرداً
----------------------
يتبــــــــــــع

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التوقيع

اذكروني بدعوه رحمني ورحمكم الله
سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم



أخر مواضيعي
الفقير الي ربه غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس