مطـــالـــــــع قصـــائـــــده
المتنبئ يخطف الأضواء ببريق مطالعة القوية النافذة، ومطلع القصيدة كالوجه من الجسم ، والعنوان من الكتاب؛ لأنها اول ما يطرق السمع، ويصل إلي القلب، فهو يختار المطاع بعناية، ويجود أول القصيدة، حتى صارت مطالعة كالأمثال إشراقاً ، واسمع بعض أجزاء لهذه المطالع، ثم بسط القول في ذلك؛ يقولك (( وأحر قلباه ممن قلبه شبم)) ويقول : (0 لكل امرئ من دهره ما تعودا)) ويقول : (( حشاشة نفس ودعت يوم ودعوا)) ويقول: (( باد هواك صبرت أم ام تصبرا)) ويقول : (( لا خيل عندك تهديها ولا مال)) ويقول : (( بم التعلل لا أهل ولا وطن)) ويقول : (( نعد المشرفية والعوالي)) ويقول : (( فراق ومن فارقت غير مذمم)) ويقول : ((لا تعذل المشتاق في أشواقه)) ويقول : (( عدوك مذموم بكل لسان)) إلي آخر تلك المطالع التي تفرض حسنها علي بصائر عشاق البيان.
فهو لا يبدأ في قصيدته ضعيفاً، ولا متخاذلاً، بل يحتفل بأول كلمة يقولها في قصيدته ، ويمنحها من رشاقة عباراته، وحلاوة منطقه، وطلاوة سحره ما يجعل هذا المطلع محفوظاً سائراً شارداً.
أراد أن يعاتب سيف الدولة، وأن يتوجع أمامه، وأن يتوجع عنده من حساده ، ,ان يشكو إليه من خصومه؛ فماذا عسي أن يبدأ به لهذه القصيدة، هل يبدؤها بحكمة؟ لا، هل يبدؤها بغزل؟ لا ، بل الأحسن أن يقول في أولها: (( واحر قلباه)) هكذا صارخة قوية متمردة، تتقطع معها كبده وأنيناً ، ويتمزق مع آهاتها وزفراتها ما بقي معه من قلب مكلوم، وروح منهكة مضطربة.
ودخل علي امير ليهنيه ويبارك له، فليس للغزل والغرام هناك مقام، وليس للحكمة مناسبة،وإنما بدأ معتذراً ومتلطفاً ليقول:
لا خيل عندك تهديها ولا مال
فليسعد النطق إن لم تسعد الحال
وهو مطلع فائق بكل معاني الكلمة ، آسر بكل مدلول الأسر، غاية في الحسن، وآية في المتعة، حتى صار أنشودة عذبة علي شفاه الرواة، ومثلاً شروداً علي ألسنة الحداة . وكأني به يمد صوته بحرف (( لا)) ثم يرسل البيت ليكون أجمل من الهدية وأثمن من العطية.
يريد أن يصف همة سيف الدولة، وعلو قدره، وارتفاع درجته بما حققه من نصر، وحازه من مجد فيبدأ بقوله:
علي قدر أهل العلم تأتي العزائم
وتأتى علي قدر الكرم المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها
وتصغر في عين العظيم العظائم
وأنت إذا سمعت هذا البيت وقر في خلدك ، واستوي في فؤادك، فسوف تعلم أن الرجل سوف يحلق بإبداعه في عالم الهمة، وسماء التضحية ، ودنيا العظمة، فهو يقدم لك عنوان الكتاب، ومفتاح الباب، ولجام الفرس؛ لتتهيأ لما سوف يبثه من مديح راق ، وثناء عبق وإشادة سامية.
يريد أن يخبرك بحاله بعد الفراق والبعد ونكسة البال، وضيق الصدر وتكالب الأعداء ، وقلة النصر؛ فيقذف بهذه العبارات أولاً:
بم التعلل لا أهل ولا وطن
ولا نديم ولا خل ولا سكن
فتفهم أن الرجل محترف بمعاناته ، ملتهب بآلامه، تكاد نياط قلبه أن تتقطع، وتوشك أعصابه أن تتمزق ، فهو يتساءل متعجباً من حاله، لماذا يتعلل ويتصبر وليس عنده أهل يأوي إليهم، فيبثهم وجده، ولهيب صدره، وليس لديه وطن لأنه غريب مرتحل، وليس عنده صديق؛ فقد خانه الكل، وتنكر له الجميع، وما عنده محبوب يبثه نجواه، وينفث فيه شكواه، وأيضاً ليس عنده سكن يضمه ويحتضنه، فهو في حالة أبلغ وصف لها هذا البيت ، وياله من مطلع ذائغ فائق.
ويذهب طريداً شريداً إلي كافور، وقد تقطعت به الحبال، وضاقت به الآمال، وأظلمت أمامه السبل، فلا يبدأ بالمدح؛ لنه في شغل شاغل عنه، ولا يستفتح بالغزل؛ لأنه يتلظى بالمرارة، ولا يقدم الأمثال؛ لأنه في عالم المعاناة والغربة، وإنما يقذف بهذه الحكمة التي تدل علي ما وراءها من كرب شديد، وحزن بالغ، وبال كسيف أسيف:
كفي بك داء أن تري الموت شافياً
وحسب المنايا أن يكن أمانيا
تمنيتها لما تمنيت أن تــــري
صديقاً فاعيا أو عدواً مداجياً
يا الله! إلي هذه الدرجة من البلوى يصل هذا العبقري الفذ، إلي درجة يتمني فيها المنايا الحمر الكوالح، ، وإلي حد يري ان دواءه يمكن في الموت، فإذا وصل الحال إلي هذا المستوي ، فحسبك بها بلية كبرى ومصيبة عظمى، حتى إن شاعرنا فقد كل صديق، ولم يجد حتى عدواً مجاملاً ، بل كلهم أصبحوا أعداءه؛ لأنه ناجح فحسب ، وهم كلهم أعداء النجاح.
أما كافور فيريد مدحه وتبجيله وتفخيم أمره؛ فينفجر بهاذ المطلع الذي كأنه إطلاله بدر من سحب، أو إشراقة نجم من حجب، أو طلعة فجر في الآفاق، يقول:
عدوك مذموم بكل لسان
ولو كان من أعدائك القمران
ولله سر في علاك وإنما
كلام العدى ضرب من الهذيان
هكذا بدأ قصيدته قوياً لامعاً فياضاً، وانظر إلي قوة الأسر، وبراعة الاستهلال، وإشراق الكلمات، وجزالة الجمل، فكأنه يفصل ثوباً زاهياً علي ممدوحه، أو يضع علي هامته تاجاً مرصعاً ، فهو يحطم شبه أعداء ممدوحه، وينسف أباطليهم، ويدفع اقوالهم بهذا القول البليغ السار، حتى لما سمع أحد العلماء هذا المطلع المرار قال: هذا والله هو الشعر.
ولكنه يحارب حتى في مصر، وتضيق به الأرض بما رحبت كما وصف حاله:
غريب من الخلان في كل بلدة
إذا عظم المطلوب قل المساعد
ويصل إليه عيد الفطر وهو في مصر، فلا يفرح بالعيد ولا يبهج به، ولا يحتفي به؛ لأنه غريب شريد طريد مكبوت، بل ينفجر ناقماً غاضباً باسراً عابساً ليقول:
عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضي أم لأمر فيك تجديد
أما الأحبة فالبيداء دونهم
فليت دونك بيد دونها بيـــد
بهذا المطلع البارع المعبر المصور يبدأ بكاءه، ويستهل عويله، فهو أبداً غاضب كالليث، جاهم كالليل، ثائر كالبركان، عاصف كالريح، يعلن للمشاهدين كل ساعة تمرده وعنفوانه ورفضه ، وهو دائماً معارض، تغلي نفسه بالغصص من زمانه وبني جنسه. إنه عند نفسه مظلوم معتدى عليه مقصود بالإيذاء ، تحبك له المؤامرات، وتنسج له العدوات، وتلفه المصائب من كل جانب، ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت.
إنها عقوبة من الله لأعدائه كما يقول:
إني وإن لمت حاسدي
فما أنكر أني عقوبة لهـــم
--------------------
يتبــــــــــــع