ثالثاً : حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً : " تفتح لكم أرض العجم ..." رواه أبو داود من طريق عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي عن عبد الرحمن بن رافع عن عبد الله بن عمرو به . وهذا لا يصح ، ففيه الأفريقي وضعفه أشهر من أن يُعرف ، وشيخه عبد الرحمن بن رافع مجهول . ولو صح فليس فيه رخصة إلا لذوات الحاجة من النساء ، ولا يلزم من الدخول انكشاف العورات كما هو معلوم .
رابعاً : حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه مرفوعاً : " احذروا بيتاً يقال له الحمام .." رواه البزار (211-مختصر زوائده للحافظ ابن حجر ) فقال: أخبرنا يوسف بن موسى أخبرنا يعلى بن عبيد أخبرنا سفيان الثوري عن ابن طاووس عن طاووس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنه .
وظاهر هذا الإسناد الصحة ولذلك اغتر به بعض العلماء فصححه ، ولكن الصواب فيه أنه مرسل كما رواه جمع من الحفاظ .
قال البزار رحمه الله : ( رواه الناس عن طاووس مرسلاً ، ولا نعلم أحداً وصله إلا يوسف عن يعلى عن الثوري ) أ.هـ كلامه .
والذي يظهر أن الخطأ في وصله من يعلى بن عبيد روايه عن الثوري فهو وإن كان ثقة ففي روايته عن الثوري ضعف ، وقد جاءت أحاديث أصح منه إسناداً تعارضه والذي قبله منها :
ما رواه أبو داود ( 2006) والترمذي (2803) من طريق أبي المليح الهذلي أن نساء من أهل حمص أو من أهل الشام دخلن على عائشة فقالت: أنتن اللاتي يدخلن نساءكن الحمامات سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت زوجها إلا هتكت الستر بينها وبين ربها " وقد صحح هذا لحديث جمع من العلماء . وفي الباب أحاديث أخرى عن جمع من الصحابة منهم : عمر وأبي أيوب وجابر الأنصاريين وعبد الله بن عمرو وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهم جميعاً انظر : مسند أحمد وسنن الترمذي وسنن النسائي ومستدرك الحاكم وصحيح ابن حبان وغيرهم ، وبعضها يشهد لبعض كما قال بعض أهل العلم.
مع أن الحافظ الحازمي رحمه الله قال في كتابه الاعتبار (187) : ( باب النهي عن دخول الحمام ثم الإذن فيه بعد ذلك.. ـ ثم قال في آخره ـ وأحاديث الحمام كلها معلولة ـ يعني المرفوعات ـ وإنما يصح فيها عن الصحابة رضي الله عنهم ) أ.هـ كلامه ،وقد ضعفها كذلك الحافظ عبد الحق الأشبيلي كما في الأحكام الوسطى له (1/244).
خامساً : ما جاء عن عمر رضي الله عنه فيما كتبه إلى أبي عبيدة رضي الله عنه . فهذا الأثر لا يصح :
فقد رواه عبد الرزاق (1134) عن ابن المبارك عن هشام بن الغاز عن عبادة بن نسي ـ قال ابن الأعرابي ـ : وجدت في كتاب غيري عن قيس بن الحارث قال : كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي عبيدة بلغني فذكره . ورواه عبد الرزاق أيضاً (1136) من طريق إسماعيل بن عياش عن هشام بن الغاز عن عبادة بن نسي عن قيس بن الحارث قال : كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي عبيدة فذكره .
ولكن رواه سعيد بن منصور عن إسماعيل بن عياش عن هشام بن الغاز عن عبادة بن نسي عن أبيه عن الحارث بن قيس قال كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي عبيدة رضي الله عنه فذكره ، فزاد فيه عن أبيه ، وجعله من رواية الحارث بن قيس .
ورواه سعيد بن منصور أيضاً عن عيسى بن يونس عن هشام بن الغاز عن عبادة بن نسي قال : كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه ... فذكره وانظر البيهقي رقم ( 13542) . ورواه ابن جرير رحمه الله كذلك عن عيسى بن يونس بمثله . ففي رواية ابن المبارك عند عبد الرزاق وعيسى بن يونس عند سعيد بن منصور وابن جرير عن عبادة بن نسي مرسلاً . وزاد إسماعيل بن عياش كما في رواية سعيد بن منصور عن عبادة عن أبيه عن الحارث بن قيس ، ونسي والد عبادة مجهول . وانظر : مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه لابن كثير رحمه الله (2/601) و سنن البيهقي (7/153)وأسقطه في رواية عبد الرزاق فيكون الأثر منقطعاً بين عبادة وقيس بن الحارث ، كما أنه جعله من رواية الحارث بن قيس بدل قيس بن الحارث.
وهذا كله يدل على اضطراب إسماعيل في روايته لهذا الأثر . بينما الأثبات رووه عن عبادة مرسلاً ، زد على ذلك الاختلاف الكثير في المتن وورود تلك اللفظة المنكرة في بعض رواياته وهي : ( فإنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر ـ وفي رواية أن يرى ـ عورتها إلا أهل ملتها ).
والجميع ـ المانعون والمجيزون ـ متفقون على تحريم كشف العورة وتحريم النظر إليها . فإن كان المقصود ما فوق السرة فهذا يؤيد قول من قال بأنه عورة وإن كان المقصود ما بين السرة والركبة فالجميع على اتفاق إلا من شذ بأنه لا يحل إظهاره والنظر إليه إلا لزوج أو سيد فكيف يجوز للمرأة أن تطلع النساء على عورتها إذا كان المقصود المعنى الثاني وعلى كل حال فهذه اللفظة لا تثبت .
وقد صح عن عمر رضي الله عنه خلاف ذلك :
قال عبد الرزاق (1133): عن ابن جريح أخبرني سليمان بن موسى عن زياد بن جارية حدثه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : كان يكتب إلى الآفاق : ( لا يدخلن امرأة مسلمة الحمام إلا من سقم وعلموا نساءكم سورة النور ) ففي هذا الأثر إباحة دخوله للمسلمة المريضة لحاجة الاستشفاء ، والتأكيد على الاستتار بقوله رضي الله عنه : وعلموا نساءكم سورة النور.
سادساً : ما ذكره المجيزون في احتجاجهم بحديث (أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاً: " لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ، ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة " وأخذهم القول بجواز إظهار ما فوق السرة ودون الركبة بدلالة الاقتران والقياس ، فيقال: معلوم أن دلالة الاقتران ضعيفة إلا بقرائن تؤيدها ، ومن العجيب أن المجيزين يأخذون بدلالة الاقتران في هذا الحديث رغم معارضته لنصوص أخرى كما تقدم في أدلة المانعين ، ولا يأخذون بها في الآية الكريمة ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن ) الآية .
أما قياسهم فهو قياس مع الفارق " وليس الذكر كالأنثى " قدراً وشرعاً ، فلا يصح هذا القياس ،وأيضاً فإن مقدار عورة الرجل مختلف فيه بين أهل العلم ، فكيف يصح القياس على أصل مختلف فيه .
وللفائدة : ينظر صحيح البخاري/ باب ما يذكر في الفخذ ( الفتح 1/530)، وراجع سنن البيهقي(2/321،329). فإذا ذكر النهي في هذا الحديث عن النظر إلى العورة في سياق واحد لا يدل على التساوي في مقدار العورة بين الجنسين فكل بحسبه كما دل على ذلك النصوص الشرعية وعمل السلف الصالح .
سابعاً : احتجاجهم بإجماع العلماء على أن المرأة تغسل المرأة كما يغسل الرجل الرجل . فهذا لا حجة فيه لأن الغسل ليس فيه إباحة إطلاق النظر فضلاً عن أن يكون فيه جواز تعرية المرأة ، فيصح أن يكون الغسل من فوق الثوب بل هذا هو المشروع، وهذا إذا قيل بالتساوي بين حالتي الحياة والموت والآية (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن ...) تخاطب المرأة بالنهي عن إبداء الزينة الخفية بالاختيار إلا لمن ذكر فيها ومن في حكمهم بالقدر المعروف شرعاً وعرفاً ، ولو قيل بجواز كشف ما فوق السرة لغير الزوج في حالة ضرورة ، وما ظهر منها في حال الضرورة أو عدم التكليف فليس من هذا الباب والله أعلم .
ثامناً : ما ذكره المجيزون من ضعف دلالة الاقتران في الآية مرجوح ، فصحيح أن دلالة الاقتران قد تكون ضعيفة ولا تدل على التساوي في الحكم إلا بقرينة وهذه القرينة موجودة لدى المانعين وهي أن جمهور السلف ـ وأخذ بها الإمام أحمد رحمه الله كما في رواية عنه ـ قالوا : إن المقصود من قوله تعالى (أو نسائهن) المسلمات أو ما ملكت أيمانهن .
وأما غيرهن فلا يحل للمرأة أن تبدي شيئاً من زينتها التي أبيح لها واعتادت إظهارها أمام النساء ، فالإضافة هنا للاختصاص ،وهذه القرينة وهي التفريق بين المسلمة والكافرة تقوي قول من أخذ بدلالة الاقتران في الآية ، وعدم خروج النساء منها واشتراكهن مع غيرهن ممن ذكر في الآية في تحديد ما يظهر لهم .
القول الراجح:
وبعد استعراض أدلة الفريقين يتبين أن القول الراجح في هذه المسألة هو قول المانعين من إظهار ما زاد على ما يظهر عادة وعرفاً وعلى الاختلاف بين الرجل والمرأة فيما هو من العورة يدل على ذلك عمل السلف الصالح من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قد أبدى ساقيه أو فخذيه أمام بعض أصحابه كما في حديث عائشة رضي الله عنها ، وأبدى ساقيه كما في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، وثبت أن أصحابه رضي الله عنهم رأوا بياض إبطيه صلى الله عليه وسلم كما رأوا جنبه صلى الله عليه وسلم وقد أثر فيه الحصير ،وكلها في الصحيح، ورأوا شعر بطنه وقد علاه التراب كما في قصة حفر الخندق ، كما ثبت حديث اغتسال سهل بن حنيف ورؤية عامر بن ربيعة له وقد كشف عن جزء كبير من جسده كما في الموطأ.
أما المرأة مع محارمها والنساء فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة في رؤية شئ من بدنها ـ الرأس والشعر والآذان ونحوها ـ فتوافق تفسير ابن عباس رضي الله عنه وقتادة رحمه الله للآية مع عمل الرعيل الأول رجالاً ونساءً فقد ثبت في الصحيح قصة زواج عائشة رضي الله عنها وتمشيط النساء لها وتزيينها للنبي صلى الله عليه وسلم .
وكذلك ثبت في الصحيح من حديث جابر رضي الله عنه في قصة زواجه من الثيب وجوابه للنبي صلى الله عليه وسلم عن سؤاله وأنه أراد أن تقوم على أخواته وتمشطهن فلا بد حال التمشيط من رؤية الشعر والأذان والرقبة ، ولا يجادل في هذا أحد .
كما ثبت في صحيح البخاري أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما دخل على أخته حفصة رضي الله عنها ونسواتها تنطف ، والنسوات : الضفائر ، وتنطف : تقطر ماء .
كما ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي سلمة قال دخلت أنا وأخو عائشة على عائشة رضي الله عنها فسألها أخوها عن غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعت بإناء نحو من صاع فاغتسلت وأفاضت على رأسها وبيننا وبينها حجاب . ففيه رؤية رأسها من قبل أخيها وابن أختها أبي سلمة لأن أم كلثوم أختها أرضعته ، وغيرها من الأحاديث وخُص الزوج من بين المذكورين في الآية ، فإنه لا يمنع من الاطلاع على كامل بدن امرأته كما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء بيني وبينه واحد تختلف أيدينا فيه ، فيبادرني حتى أقول دع لي ، دع لي ، قالت : وهما جنبان . وجاء عند ابن حبان أن عطاء سأل عائشة رضي الله عنها عن الرجل ينظر إلى فرج امرأته ، فذكرت هذا الحديث بمعناه . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : ( وهو نص في المسألة ) أ.هـ كلامه .
كما ثبت عند الإمام أحمد وأبي داود والترمذي من حديث بهز بن حكيم حدثني أبي عن جدي قال قلت يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر قال : " احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك " فقال الرجل يكون مع الرجل قال : " إن استطعت ألا يراها أحد فافعل " قلت والرجل يكون خالياً قال:"فالله أحق أن يستحيا منه " ، ولا يثبت حديث في منع الزوجين أو أحدهما من رؤية عورة الآخر ، ولم ينقل خبر بإسناد صحيح أو ضعيف فيما أعلم ذكر فيه تكشف النساء وإظهارهن ـ عدا ما بين السرة والركبة ـ فيما بينهن عندما يجتمعن فلو أعتقد السلف جواز ذلك والرخصة فيه لنقل ذلك عنهم ولو عن بعضهم كما نقل غيره مما هو دونه ، فهذا يدل دلالة واضحة على ضعف قول من قال بجواز كشف ما عدا ما بين السرة إلى الركبة للنساء فيما بينهن ، وأن هذا القول بني على أدلة صريحة لكنها لا تصح ، وأما ما استدلوا به من الأدلة الصحيحة فالأمر بخلاف ما ذهبوا إليه منها كما مر .
وقبل أن نختم الكلام في هذه المسألة ، يحسن ذكر أن هناك قولاً ثالثاً في المسألة وهو أن عورة المرأة من المرأة كعورتها من الرجل الأجنبي عنها ، وهذا مذهب غريب مخالف للنصوص الثابتة التي ذكر بعضها ، ولم يعلم أحد قال به سوى الإمام القاضي عبد الوهاب المالكي رحمه الله في شرحه الرسالة لابن أبي زيد القيرواني على ما نقله ابن القطان رحمه الله في كتابه ( أحكام النظر ) ، ولا يعرف لهذا لقول دليل سوى ما رواه الحاكم رحمه الله في مستدركه ( 5/253) فقال :
باب التشديد في كشف العورة ، ثم أخرج (7438) بسنده من طريق إبراهيم بن علي الرافعي حدثني علي بن عمر بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " عورة الرجل على الرجل كعورة المرأة على الرجل ، وعورة المرأة على المرأة كعورة المرأة على الرجل " ثم قال رحمه الله : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه . فقال الذهبي متعقباً له : الرافعي ضعفوه أ.هـ.
وفيه علة أخرى وهي جهالة علي بن عمر ، فلا يعرف حاله ، وليس هو علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الثقة فهذا آخر غيره ، كما أن متنه غريب منكر .
والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
-----------------------
للفايدة