رؤية تقصير النفس
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإذا أردتَ أن تنتفع برمضان أو بغيره من الطاعات، فعليك أن تدخل على الله -سبحانه وتعالى- دخول المذنبين المقصرين الخائفين المعترفين بذنوبهم، لا دخول المعجبين المدلّين بأعمالهم.
قال ابن القيم -رحمه الله-: «فإن وقوفك بين يدي الله -سبحانه وتعالى- ناكس الرأس، خاشع الطرف، منكسر القلب، أنفع لك، وخير من صولة طاعتك وتكثرك واعتدادك بها، فذنب تذل به لديه أحب إليه من طاعة تُدلّ بها عليه، وإنك إن تبيت نائمًا وتصبح نادمًا، خير من أن تبيت قائمًا وتصبح معجبًا، فإن المعجب لا يصعد له عمل، وإنك إن تضحك وأنت معترف، خير من أن تبكي وأنت مُدِلّ، وأنين المذنبين أحب إلى الله تعالى من زجل المسبِّحين المدلِّين».
فلو اجتهدت -أخي الحبيب- في طاعة الله -سبحانه وتعالى- غاية الاجتهاد، وبذلت وسعك في ذلك غاية البذل، فأنت مقصر مع كل ذلك، وحقّ الله أعظم من عملك، وإن عملك مستحَقٌّ عليك بمقتضى عبوديتك لله، أما إثابته لك على ذلك فهذا محض فضل وإحسان ومنة منه إليك، ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: )لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل (.
وعليك -أخي الحبيب- أن تشاهد منة الله عليك في أن وفقك لإدراك هذا الشهر، وأقامك هذا المقام، ويسَّر لك سبل الصيام والقيام، مع أن كثيرًا من الناس قد حرموا من ذلك، فمنهم من هلك وأصبح رهين الجنادل والتراب، ومنهم من جاءته الآفات المانعة، فأصبح معطّل الجوارح لا سبيل له إلى الصيام والقيام، ومنهم من أدركته أيام الخير لكن غلبته نفسه على الشهوات.
فلولا الله -سبحانه وتعالى- لكنت أحد هؤلاء أو هؤلاء، قال تعالى: ﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [الحجرات:17]. فالمنة لله وحده في أن جعلك قائمًا بطاعته، مجتنبًا معصيته، ساعيًا في مرضاته.
وهذا المشهد من أعظم المشاهد وأنفعها للعبد، وفيه من الفوائد أنه يحول بين القلب وبين العجب بالعمل ورؤيته.
ومن فوائده: أنه يضيف الحمد إلى وليّه ومستحقّه، فلا يشهد لنفسه حمدًا، بل يشهده كلّه لله، كما يشهد النعمة كلها منه، والفضل كلّه له، والخير كلّه في يديه، وهذا من تمام التوحيد.
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
-------
للفايدو