17-09-2013, 12:42 AM
|
#3953
|
كبار الشخصيات
|
رد: كلمات مـــــــن القلــــب الــى القلـــــــب
أينَ مِنِّي ذاك الزمان!!!
في ليلةٍ مِن ليالي المدينة الحالِمة, خرجتُ كالعادة إلى فناء المنزل مُصطحِباً معي رفيقة الدرب.... قهوتي التُركيّة ذات الوجه الذهبي المُترَف الذي يفوقُ حُسنهُ حُسنُ أجمل فتاةٍ في ليلة عُرسها المشئوم....بُنُّها اليمنيُ الأصيل قد حُمِسَ نِصْفُ حمسةٍ على صاجٍ قديم قد وُضِع على جمْرِ الغضى....وهيلُها الهرري قد طُحنَ طحناً لم تشهدُ العرَبُ ولا العجَمُ طحْناً ناعِماً مِثلَه, ثُمَ خُلِطا بِطريقةٍ تحسبُ معها أنَّ من قام بالخلْطِ ليس إلا كيميائيٌ قدير....ثُم يأتي دوري في صُنعها على نارٍ هادئة....فتنتشرُ رائحتها الأزكى مِن عُطور إيف سان لوران لِتَملأ المكان....حتى أن مَن يجِد رائحتها ليَحلِف أن صانِعَ هذهِ القهوة لهوَ صائغ ذهَب أو مُهندِس أقمار صِناعيّة....هَل أُلام على حُبي لها..... ما أجمَلكِ يا قهوتي وما أشدَّ غيرةِ القهيوات الأُخريات مِن حُسنكِ الفتّان....
جلستُ كعادتي إلى طاولتي الخشبيّة واضعاً الحبيبة أمامي بعد أن قبلتها أولَ قُبلة إرتشافيّة....مُستمتِعاً بنكهة الهيل الذي غابت ملامحهُ لُطغيان بريق البُن.....
رفعتُ رأسي...ليس فخراً...إنّما تأمُلاً لبديع صُنع الله المُتجلّي في سمائه...خميلةٌ سوداء مُحلاة بعقودٍ مُرصّعةٌ بجواهرٍ مِن نور....سُطوعٌ هُنا....وهُنا خُفوت....لا إله إلا مَن أبدَع هذا المنظر...هو الله ربي ولا شك.
وفي غمْرة التأمل تِلكَ الليلة, حصلَ معي مالم يكُن في الحُسبان....اختلالٌ في الموازين المعلوماتيّة....فشبكة الإتصالات في دِماغي أصبحَت تُرسل إشارات خاطِئة ومُتقَطِّعة مِن حافظات الذاكِرة لدَيّ إلى مُعالج التوضيح....خللٌ ما حصَل في هارد دسكي....ماذا حصَلَ لهارد دسكي؟!!! أكان يجبُ عليَّ أن أعمَل لهُ صيانة دوريّة كما يحصُل لهارد ديسكات أجهزة الكومبيوتر؟!! أم كان يتوجّبُ عليَّ أن أقوم بِمَسح الذاكرة وتنظيفها أولاً بأوّل؟!!! أم أنَّ مراوح التبريد الطبيعيّة لم تعُد تفي بالغرَض, فأصبح هارد ديسكي المسكين في حالة تخبُط تحت وطأةِ الحرارة المُرتفعة؟!!! ....لم أعُد أدري مالعمَل....تركتُ الأمرَ لله يُدبِّرهُ كيفَ يشاء...
انقطَعَ حبلُ التأمُّل بتشويش مُتعمَّد على تردُدهِ واستقطابه....ودخلَ على الخَط صورٌ مِن كُلِّ ما هَبَّ ودبَّ مِما هوَ موجود في الذاكِرةِ الرئيسية....
فتارةً أرى صينيَّة مكرونة بالباشاميل كالتي كانت تُعِدُّها لي زوجتي رحمها الله, وتارةً أرى 240 إل موديل83, وأُخرى أرى حرائق غابات الأمازون في نهاية التسعينات, ولمحة لحادثة تصادُم قِطارين في الهِند بسبب بقرة....وهكذا...إلى أن توقفت هذهِ العشوائية مِن الأمواج العاتيَةِ في الإرسال....ولكنها توقَفَتْ عِندَ صُوَرٍ ثابِتةٍ, أخذَتني بِها إلى ضِفَافِ الشاطئ الآخَر مِن الزمن....ذلكَ الشاطئ الورديّ الذي أتمنى أن أعود إليه....شاطئ مِن البراءة والفرح.....لا زِلْتُ أحنُّ إلى ذلك الشاطئ حنين الطِفلِ لرؤية أُمه الغائبة...
شاطئ ذكريات أولى ابتدائي.....آآآه ما أبعدَ ذاك الزمان وما أقربَه....
كانت والدتي حفظها الله ورعاها توقظنا مع أذان الفجر ....وباعتباري مُنتسبٌ جديد لجماعة الصلاةِ في المسجِد فقد كانت توقظني بِكُلِّ حنان حتى أتعوَد على الإستيقاظ في مِثلِ هذا الوقت....
أمَّا إخوتي الكِبار الذين لا يتزحزحون إلا بِصعوبةٍ فلقد كانت تصيح بِهِم فتبدأ بأكبرِنا سِنّاً....خالد...خالد...خالد قوم قربت الإقامة...متى تقوم ومتى تتوظى ومتى تلبس....ومتى تروح.....خالد....خالد قوم قامت قيامتك......
وكذلكَ كانت تفعَل مع الآخرين حتى يستيقظوا, ويبدأ السِباق إلى مراكِز الوضوء في منزلنا الكبير, ويبقى الضعيف الكسير الذي هو أنا واقفاً ماسك سِرا....
كُنّا نُغادرُ المنزِل برفقة والدي وجدّي رحمهُ الله, بعدَ أخذ التعداد العام لنا, ذلك التِعداد....ويلٌ لِمَن لا يحضُرهُ مِنّّا....سيتمنى أنَّ أُمي لم تلِده, نتوجّه إلى المسجِد النبوي عبر أزِقة حيّنا....ذلكَ الحي العتيق الذي يفوحُ بعبقِ تاريخ المُصطفى صلوات ربي وسلامهُ عليه وتاريخ صحابتهِ الكِرام رُضوان الله عليهِم....و نشْتمُ رائحة حياة مضَت لمنازل مِن عُصورٍ مُتناثِرة, المباني ذات الطابع التُركي هي الغالبة بأحجارها ومشربياتها وأبوابها الخشبيّة المنقوشة....
نُصَلِّ فجرنا ثُمَ نعودُ أدراجنا إلى منزلنا عبر أزِقة الحي, فترى مخبز الكعكي قد بدأ بفتح أبوابه, و قهوة حمزة قد جهزَت طاولاتها, والعم مرزوق واقفاً أمام بقالته-مرزوق هايبرماركت- يرُشُ الماء رافعاً صوته...أصبحنا وأصبَح المُلكُ لله....يا فتّاح يا عليم يا رزاق يا كريم....لآآآآآ إله إلا الله سيدنا محمد رسول الله....
ندخُل البيت جميعاً باستثناء أكبَر إخوتي...خالد...حمَّال الأسيّة...
كان أخي خالد هوَ المندوب السامي لوالِدي إلى مقام الباب العالي مَلِك الحارة صاحِب فُرن التميز (التميس), حيثُ يوصيهِ الوالِد حفظهُ الله بأن يشتري بنصف ريال تميز ونصف ريال فول
كان نصف الريال ذا شنّة ورنّة, كان فِعلاً ذا طَلْعة مَهيبة كطَلعة وزير البترول في أيامِنا هذه....
كان النِصفُ ريال يأتينا بخمسِ أرغِفةٍ مِن التميس المُنضَج على الجمر.....راحَت أيامك أيُها النصفُ المُحترَم لم تعُد تُساوي شيئاً يُذكَر....
وكان النِصفُ الآخَرَ يأتينا بكميّات كبيرة مِن الفول المُسمَّن....
يعود إلينا خالد وقد جهزّنا سُفرتنا الخصفيّة ووضعنا الصحون الملأى بالجُبن والزيتون والعسَل والبيض...
نتحلَّق حول السُفرة ثُم نبدأُ نحنُ الأبناء بالغزو على ماهوَ أمامنا...ولا نقوم إلا بعدَ أن نجعلَها قاعاً صفصفا....كُنّا وكأننا جِمالٌٌ تحاوِلُ أن تختزِنَ في أسنمتِها ما يكفيها لمجهود يومٍ كامِل...
بعدَ هذهِ الوجبة المَريعة وبعد أعمال النظافة العامّة تقومُ والدتي بإخراج ثوبي, والذي طلب والدي مِن الخيّاط أبو علي أن يخيطه على مقاسي....فتفنّنَ فيهِ وليتهُ لم يفعل....فلقد أضحى كثيابِ إخوتنا السودانيين....وبعد إلباسي تِلكَ الخيمة المُسمّاة ثوباً تقوم والدتي بتمشيط شعري بمِشطٍ صلْب أشبهُ بالمِحراث, فتفرق شعري مِن أحد الجانبين حتى ليظُنُ مَن يراني بأنِّي أخٌ لعبد الحليم حافِظ.....
تُطيبُني بالطيب الخاص بأبنا العائلة, ثُمَّ تضَع حقيبتي الجِلديّة الكبيرة على ظهري البائس الصغير, وأثناء هذا كُلّه أُلَقَّن آداب السُلوك في الشارِع وفي المدرسة وبين الحِصص وأمام المُعلمين و...و....إلخ, وأخيراً أحصُلُ على مُغلّف بسكوت أبو ميزان لأتسلى بهِ في الفُسحةِ الكبيرة.
أودعها بقُبلةٍ أطبعها على يدها الشريفة....ثُم أمُرُ على والدي وجدّي لأُقَبِّل أياديهما....فيُعطيني والدي مصروف الفُسحة....أربعَةِ قُروش...آخُذها مُتهلِّلاً فَرِحاً وكأنني حُزتُ ما تركَ آل قارون.....
أول خطوة مِن بابِ البيت إلى المدرسة....بسمِ الله....
-----------
م/ن /يتبع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
|
|
|