لم يكُن الخروج مِن البيت عشوائيّاً, لا بل كان غاية التنظيم....
كنتُ وأغلبُ إخوتي ننحازُ ألى يمين الباب الخارجي هؤلاء حزب الإبتدائي أمّا الإثنان الآخران فهما مِن الحزب اليساري المتوسطي المُتطرِّف للباب.
ودعنا الحِزب المتوسطي.... بعدَ أن ارتسمت على وجوهِهِم ابتسامة شفَقَة على حالي البائس....فالمسافة إلى مدرستنا تتجاوز الكيلو مترين وشنطتي الجلديّة الغبيّة المنظَر....ثقيلةٌ جِدَّاً وهي فارِغة فكيف بها إذا امتلأت بالدفاتر والأقلام والأدوات الأُخرى...
لم يكُن والدي يستطيع أن يوصلنا...فهو الآخر كان يذهب إلى مقرِّ عملهِ مشياً....كان حفظهُ الله للتوّ عائداً من خارِج البلاد بعد غياب دام خمس سنين....وكان ينوي شراء سيّاره ليُريحنا مِن عذاب الغدو والرواح مشيّاً على الأقدام....ولكن حِزب المُعارضة(جدّي) رحمه الله كان ينهاه لِشدّة غلاء السيارات في ذلك الوقت..
قبل الإنطلاق لفتَ نظري أمرٌ غاية في الغرابة.....
إخوتي ينادوني للحاق بركبهم ولكني أرفُض بِكُل صلَفٍ وعباطة, وأُقسِم لهم أن لا أتزحزح من مكاني حتى أرى كامِل أحداث هذا المنظر العجيب...
كلبٌ(أجلَّكُم الله) يظهر لنا مِن أول الحارة.....يخترق الأزِقّة والتقاطعات غير آبهٍ بأحَد....يمشي الهوينا حتى يصل دُكان عم مرزوق الجالِس على كُرسيّهِ يروّح عن نفسهِ بمروحتهِ الخصفيّة ماركة سانيو....
يتوقف ثُم ينظُر للعم مرزوق نظرة مِلؤها البؤسُ والشقاء وكأنّهُ ينتظرُ منه شيئاً....فيقومُ العم مرزوق من مكانهِ مُتجِهاً نحو أعماق دُكّانه ليغيب ثوانٍ ثُم يخرُج لضيفهِ بصحفةٍ معدنية بها بعضُ الطعام وآنيةٍ أُخرى بها قليلٌ مِن الماء....
يأكُل الضيف ما قسمهُ اللهُ له ويشربُ مِثل ذلك.....ثُم يعود أدراجه حتى دون هوهوَةِ وداع لمُضيفه الطيّب.....
يا الله كم وقفتُ حائراً أمام هذا المنظر....كم مِن الأسئلة تبادرَت إلى ذهني حيال هذهِ الصورة العجيبة....لأوّلِ مرّة أرى مِثلِ هذا الحدَثِ المُهُم مِن الرحمة بذوات الأكباد الرطِبة... الذي يُفوقُ في أهميته عِندي حرب الإنتكاس في سبعة وستين والتي لم تكُن تهمني أصلاً...فمَن رأى ليس كمن سمِع...
أضمرتُ في نفسي أمراً لم أبُح بهِ لأحد....لقد أضمرتُ أن أتوجّه للعم مرزوق نهاية يومنا الدراسي ذاك لأفتح معهُ تحقيقاً مُوسّعاً عن هذه الحادثة التي لا يجود الزمان بمثلها بسهولة....
هيّا هيّا ما كفّاك اللي شفته.....أخي وهو يناديني...
مشينا....مشينا....مشينا.....تعبتُ إلى حدِّ التوقُف شِبه النهائي....حملوا عنّي شنطتي....فمشينا....مشينا.....وهذه المرّة كدتُ أسقُطُ أرضاً مِمّا حلّ بي مِن تعب وتوقفتُ نهائيّاً....فحملني أخي الذي انتقل من الصف الخامس للصف السادس....حملني على ظهره شفقة بي....آآآآهٍ يا أبا ياسِر والله لو لم يكُن لك مِن الفضلِ عليّ إلا حملك إياي في أول يومٍ دراسي لي لكفاك...
وصلنا المدرسة بحمد الله ومِنّته....
----------
للفايدة/باقي لة نهاية بس لم اجدها ابحث عنها ان شاء الله