أعظـــــــم الظلـــــــم:
ظلم الإنسان لربه، أن يتخذ معه إلهاً شريكاً، وهو الذي خلق، وأن يشكر غيره وهو الذي أعطى، ويخشى سواه وهو الذي يمنع، ويذل لغيره، وهو الذي يعز، ويتوجه بالسؤال والدعاء والعبادة لغيره، وهو - سبحانه - مالك الملك فذلك أعظم الذنب عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال ((أن تجعل لله ندّاً وهو خلقك)).
وَيؤكد هذا قول الله - تعالى -: (إن الشرك لظلم عظيم) وَإِيَّاهُ قَصَدَ بقولهِ: (ألا لعنة الله على الظالمين)[كما ذكر أهل التفسير].
من هو الرّب ؟
فالذي يستحق العبادة هو الذي يوجد الخلائق من العدم إلى الوجود، لأن الذي لا يقدر على خلق غيره هو مخلوق يحتاج إلى خالق يخلقه، ويرزقه، ويدبر شؤونه.
فالرَّب: هو الله - عز وجل -، هو رَب كلِّ شيءٍ أَي مالكُه، وله الرُّبوبـيَّة علـى جميع الـخَـلْق، لا شريك له، وهو رَبُّ الأَرْباب، ومالِكُ الـمُلوكِ والأَمْلاكِ. ولا يقال الرب فـي غَير الله، إِلا بالإِضافة كقولك رب البيت، ورب الإبل، وقول يوسف - عليه السلام - عن سيده: (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ)[يوسف 23].
قال الله - تعالى -: (يَـا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشًا والسماء بناءا وَأَنزَلَ مِنَ السماء ماء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ)، وقولـه - تعالى -: (أَفَمَن يَخْلقُ كَمَن لا يَخْلقُ) وقولـه - تعالى -: (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شركاء خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شيء وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) أي الواحد القهار الذي هو خالق كل شيء هو المستحق للعبادة وحده - جل وعلا -. وقولـه - جل وعلا -: (أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ) وقولـه - تعالى -: (وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ ءَالِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ) فأعظم الظلم أن تعبد غير الله، وتتنكر لنعم الله عليك.
روى الدارمي عن مجاهدٍ قال: حدثني مولايَ أنَّ أهلُهُ بعثوا معَهُ بقدحٍ فيهِ زُبْدٌ ولبَنٌ إلى آلهَتِهِمْ قالَ فمنعَنِي أنْ آكلَ الزُّبْدَ لمخافَتِها، قال فجاءَ كلبٌ فأكلَ الزبْدَ وشرِبَ اللبنَ، ثم بالَ علَى الصنمِ وهِوَ أُسافٌ ونائلةُ.
قالَ هارونُ يحدث عن حال الناس قبل الإسلام: كانَ الرجلُ في الجاهليةِ إذا سافرَ حملَ معهُ أربعةَ أحجارٍ ثلاثةً يقْدِرُهُ (يجعلها لقدره لصنع الطعام ) والرابعُ يعبُدُهُ، وَيُرَبّي كلبَهُ ويقتُلُ ولدهُ.
وعن عمرانَ بنِ حُصينٍ، قال: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأبي: ((يا حصين كمْ تعبدُ اليوم إِلهاً؟)) قال أبي: سبعةً: ستَّاً في الأرضِ، وواحداً في السَّماءِ. قال: ((فأيُّهُم تُعِدُّ لرغبتِكَ ورهبتِكَ؟)) قال: الذي في السَّماءِ. قال: ((يا حصينُ أما إِنَّك لو أسلمتَ علمْتُكَ كلِمَتيْنِ تنفعانِكَ)) قال: فلمَّا أسلمَ حُصينٌ قال: يا رسولَ الله علِّمني الكلمتينِ اللَّتينِ وعدتني فقال: ((قل: اللهُمَّ ألهمني رُشْدي، وأعِذْني من شرِّ نفسي))[رواه الترمذي].
وروي أن الطفيل بن عمرو كان لـه صنم يقال لـه ذو الكفين فكسره وحرقه بالنار وقال يا ذا الكفين لست من عبادك، ميلادنا أقدم من ميلادك، أنا حشوت النار في فؤادك.
فيا عجباً منك أيها الإنسان كيف يطيب لك أن تعبد آلهة متعددة، وعند الطلب والحاجة تدعو واحداً، وتخلص له في الدعاء؟ ! وكيف طابت نفسك أن تعبد مخلوقاً هو أدنى منك خلقا وقدراً، بل إذا أصابك البرد أحرقته ؟ ! وكيف ساغت لك نفسك أن تعبد إلهاً حتى إذا جعت أكلته؟! وكيف قبلت نفسك أن تقدس حجرأ أوشجراً أو مدراً...بل جعلت نفسك عبداً للدرهم، والدينار، والخميصة، والسيارة، وغيرها من متع الدنيا.قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((تَعِس عبد الدينار تَعِس عبد الدِّرْهم تَعِس عبد الخَميصَة تَعِس عبد القَطيفة تَعِس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش)) أَي إِذا دَخَـلَت فـيه شوكةٌ لا أَخْرَجها من موضعها.
كيف يتقبل عقلك تشبيه ربك بما لا يليق مع جلاله وكماله - سبحانه -، وتنسب له الزوجة والولد، وتجعل له شريكاً في ملكه ؟! بل ما أسف نظرك عندما عبدت النار، والشمس، والقمر؟! وألهت العجل، وسجدت للحجر؟! وما أجهلك عندما تنكر قيوم السموات والأرض - سبحانه وتعالى -.
أقول لك لا دناءة أعظم من هوىً متبع و عبادة الدينار والدرهم، والعيش للدنيا ومتعها ولا همّة أخسّ من همّة ترتفع بثوب جديد، وقصر مشيد، ونوق عنيد، وتضعف مع الحليم الرشيد، ذو العرش المجيد - سبحانه وتعالى -، ما هذا إلا إسفاف في النظر، وانحطاط في الفكر.
وهل أعظم ظلماً، ممن خلقه الله لعبادته وتوحيده، فذهب بنفسه الشريفة، فجعلها في أخس المراتب؟ جعلها عابدة لمن لا يسوى شيئاً، فظلم نفسه ظلماً كبيراً.
روي عن مهران: أن عمر بن الخطاب كان إذا دخل بيته نشر المصحف فقرأه، فدخل ذات يوم فقرأ، فأتى على هذه الآية: (الَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) فأخذ رداءه، ثم أتى أبيّ بن كعب، فقال: يا أبا المنذر فتلا هذه الآية: (الَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) وقد ترى أنا نظلم ونفعل ونفعل؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا ليس بذاك، يقول الله - تعالى -: (إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) إنما ذلك الشرك.
موقف مشرّف:
الشباب الفتية أصحاب الكهف عندما رأوا الجبار دقيانوس يدعو إلى الشرك والوثنية، وعبادة غير الله - عز وجل - فوقفوا في وجهه متحدين، وللوحدانية مقرين، وللشرك نابذين، وللوثنية رافضين، وامتنعوا من السجود للأصنام قائلين: (رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً) [الكهف14] جوراً، تعدياً، كذباً، خطأ، إلى غير ذلك.
موقف مخزي:
بعد أن خلق الله آدم بيده ونفخ فيه من روحه، أمر الله - عز وجل - الملائكة أن تسجد له وكان بينهم إبليس، فالأمر موجه إليه كذلك، فلبت الملائكة النداء الإلهي، إلا إبليس أبى واستكبر، وادعى أن عنصره الناري خير من عنصر آدم الطيني، فحل عليه الغضب الرباني، وحكم الله عليه بالكفر والطرد من رحمته قال الله - تعالى -: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) وصرّح إبليس اللّعين بذلك عندما قال الله - عز وجل - له: (قَالَ مَا مَنَعَكَ ألا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَه مِن طِينٍ) (الأعراف: 12). (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائـكَةِ اسْجُدُوا لآدمَ فَسَجَدُوا إلا إِبْلِيسَ قَالَ ءَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا) (الإسراء: 61). (قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتهُ? مِن صَلْصَـالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ) (الحجر: 33) فكفّر بهذا التصريح، وفي الامتناع من الاستجابة لأمر الله - عز وجل - في تقديم التحية لآدم - عليه السلام - بالسجود له.
وعليه فكلّ من سَفّه شيئاً من أوامر الله - تعالى - أو أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - كان كافراً كإبليس المطرود من رحمة الله -تبارك وتعالى-.
وقال قتادة: حَسَدَ إبليسُ آدم، على ما أعطاه الله من الكرامة فقال: أنا ناريّ وهذا طِيني، وكان بدء الذنوب الكِبْر، ثم الحرص حتى أكل آدم من الشجرة، ثم الحسد إذ حسد ابن آدم أخاه.
عاقبة الإلحاد والإشراك:
قال الله - سبحانه -: ( قُلْ أرأيتم إِنْ أَصْبَحَ ماؤكم غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بماء مَّعِين) [الملك: 30] غائراً ذاهباً في الأرض لا تنالـه الدلاء، يَأْتِيكُم بماء جارٍ يصل إليه من أراده، فعلمتنا السنة النبوية الشريفة أن نقول عند تلاوتها: الله رب العالمين،
وتليت هذه الآية عند ملحد فقال: يأتي بالمعول (الفأسُ العظيمة) والمعن (من أدوات الحفر) فذهب ماء عينه في تلك الليلة وعمي، وقيل: إنه محمد بن زكريا المتطبب [ذكره الإمام النسفي في تفسيره].
قال الإمام الطبري في تفسيره: كان رجل عالم في بني إسرائيل وجد رقعة: إن العبد ليعمل الزمان الطويل بطاعة الله فيختم له عمله بعمل أهل النار فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بمعصية الله ثم يختم له عمله بعمل رجل من أهل الجنة فيدخل الجنة؛ فقال: ولأي شيء أتعب نفسي فترك عمله وأخذ في الفسوق والمعصية، وقال له إبليس: لك عمر طويل فتمتع في الدنيا ثم تتوب، فأخذ في الفسوق، وأنفق ماله في الفجور، فأتاه ملك الموت في ألذ ما كان، فقال: يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله؛ ذهب عمري في طاعة الشيطان، فندم حين لا ينفعه الندم؛ فأنزل الله خبره في القرآن، فقال الله - تعالى -على لسانه: (يا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ اللَّهِ) [الزمر: 56].
وَروي عن أبي سعيد الخدريِّ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: في قولِ اللَّهِ - عز وجل -: (يَاحَسْرَتَا) قال: الحسرةُ أن يرى أهلُ النارِ منازِلَهُمْ من الجنة، قال: فهي الحسرةُ... فيزدادون عذاباً بالحرمان منها.
ومن الناس من يقول: (لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [الزمر: 57]، وآخر يقول: (لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الزمر: 58]، فجاء قول الله - تعالى -ردّاً لكلامهم: (بَلَى قَدْ جاءتك آيَاتِي) فكل الاعتذارات مردودة على أصحابها، ولن تكون منهم إلا الحسرة والندامة حين لا ينفع الندم.
ولأن الشرك من أعظم الذنوب فإن الله - عز وجل - ردَّ كل عمل يقوم به المشرك مهما كان صالحاً قال الله - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يشاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً) [النساء 48].
بل توعد الله - سبحانه - المشرك بالحرمان من الجنة فقال: (مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) [المائدة72].
وضرب لذلك مثلاً فقال - سبحانه -: (لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السماء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ في سَمِّ الْخِيَاطِ) أي: حتى يدخل البعير على كبر جسمه في ثقب الإِبرة، الذي هو من أضيق الأشياء والمعنى: فكما أنه محال دخول الجمل في ثقب الإبرة، فكذلك المكذبون بآيات الله، محال دخولهم الجنة.
تخيل حال المشرك الكافر وسوء عاقبته في قوله - سبحانه -: (وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السماء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ).
تشبه الآية مثله كمَثل من خرّ من السماء، فتخطفه الطير بسرعة فيهلك، أو تهوي به الريح إلى مكان بعيد، فيهلك، فيأتيه الملكان ويسألانه عن ربه، ودينه، ونبيه،
وهو يقول: ((هاه هاه لا أدري فينادي مناد من السماء أنْ كَذَبَ عبدي فأفرشوه من النار، وافتحوا له باباً إليها، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح،
فيقول: أبشر بالذي يسوءك، هذا يومك الذي كنت توعد
فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر،
فيقول: أنا عملك الخبيث. فيقول: ربِّ لا تقم الساعة)).
وهيهات هيهات أن يسمع الله لندائه، وأن يصغي - سبحانه - إلى طلبه، وقد فوات الأوان، و صار في دار الهوان.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
-------------
للفايدة