ورأيتــــــك يـــا بنــــي..
فكانت الثانية ساعة؛ والساعة يوما؛ واليوم شهرا...
وقف الزمان؛ وأنا ماثلٌ أمام سرير أمك، وبجانبها تلتف خرقةٌ بيضاء متناهية الصغر،،، ثم تحركت يدي وكأنما تحمل أطنان حديد، وتأن تحت وطأة الواقع السعيد، وتقصر المسافة، وتقصر..
وأخيراً؛؛ رفعت الغطاء عن وجهك الصغير، فاحتبس الهواء من حولي، وخفتت الأصوات عن أذني، فكانت عزلةٌ عن العالم، بين عيني وعينيك تمتد وشائج من نور، وروابط من فرحٍ وسرور..
عذراً بني إن عثر بي البيان، فما كانت تلك اللحظات؛ لتسجل بالكلمات،،، ولا أفواج تلك المشاعر؛ لتسطرها المحابر..
دعني بني أتجاوز تلك الثواني، فهي اكبر من طاقتي، واسمح لي أن أنتقل بالحديث إلى دربٍ آخر..
في تلك الأقماط بني..
كم كنت صغيراً هزيلا، وكم كنت ضعيفاً عاجزا، إن رضيت فرضاك النوم، وإن سخطت أو تألمت أو احتجت فتعبيرك البكاء، لا تملك سواهما إلا ما منحك الله به من محبة أبويك وعطفهما..
مساكين نحن بني..
من نطفةٍ خلقنا، وفي رحم الظلمات نشأنا، ثم إلى الدنيا ضعفاء خرجنا، فما أقل حيلتنا بكل أطوار حياتنا..
عاجزون؛؛ خلقنا ونشأنا في هوان، ثم إذا بلغ المرء منا اكتمال النصاب، ووصل لسن الشباب، نسي من ماضيه ما كان، ورأيته يجر عطفي القوة والخيلاء، ويرى بعين شدته أنه المخلوق الأوحد، والكامل المفرد..
لو تذكر المرء كلما هبت عليه رائحةٌ من غرور، أنه كان يوماً جنيناً تغمره الدماء، ومولوداً لا يعي من أمره رداً ولا أداء، تقلبه الأيدي فلا يملك عن نفسه دفعا، ولا يسطع لروحه نفعا..
لو تذكر ذاك لهان عليه من نفسه ما صعب، وتيسر عليه من خلقه ما جمح، فمن ضعفٍ نشأ وإلى ضعفٍ يعود، ومن هونٍ ارتقى وإلى هونٍ يئوب..
فما زهوه بشبابه –إن زها- إلا فقاعة صابون، ما أيسر أن تلامسها كف داء؛ أو إصبع شقاء، ليعود لذات ضعفه؛ وينقلب لحال هونه..
فرحمتك إلهي؛؛ حكمك بنا محيطة،، كم نغفل عنها ونجهل، وما زلت بنا رحيما..
أي بني..
لإن أطال الله بك العمر، وأجرى بك في مسير الدهر، فسيأتي عليك يومٌ وأنت بإحدى حالتين:
إما فقرٌ وإما غني، ولا أرى فيها توسطا، فإن من ملك قوت يومه وغده قد اغتنى، أما الفقير فهو بني من لا يضم على محيط بيته إلا قوت يومه، فإذا أصبح كان له مع قوته يوماً جديد، وربما جرت المقادير بآية فقره فبات طاويا..
أعلم بني أني قد فجأتك وأنت حبيس لفائفك بحديثي هذا..
بيد أني رأيت يدك المقبوضة فانقبضت لمرآها نفسي، وتذكرت قولهم عن يد ابن آدم مقبوضةً عند مولده، مبسوطةً عند موته، فرجوت الله أن يجعل يدك بين الأمرين ما طالت بك حياتك بين الولادتين..
يا بني.. إن عشت غنياً فاعلم أن للقلوب غناً كم يغفل عنه الأغنياء، فلتزد من بسط يدك في الخير، لتكن سعادتك بغنى نفسك أشد، وفرحك بقناعة روحك أعم؛ واعلم أن هللةً تنفقها في برٍ تزرع في وجدانك من السعادة مالا تسطع زرعه آلاف الريالات تنفقها لتشبع لبانتك..
واعلم بني؛؛ أنك إن عشت فقيراً فقد نلت غناً لا تقل به سعادةً عن سعادة من حاز الكنوز، وإني بني قد قلبت في دنيانا هذه نظرا، وأجلت فيها بصرا، فما رأيت فيها سعادةً كسعادة الفقير بين أهله، ولا حبوراً كحبوره بين جيرانه، قد يئست المصالح أن تتسلق جدران بيوتهم، فسلمت الشقوق والخراب، وعاشوا بها إخوةً أحباء، ورفقةً خلصاء..
واعلم أنه لولا فضائل الفقراء لكانوا والبهائم سواء، فإن الغني يداهن الناس بماله ليغطي ما ضيع من أخلاقه، أما الفقير فزاده أدبه، فإن كمل وحسن؛ فلا يضره بعده إن عاش طاوي البطن، عاري البدن..
أي بني..
أعلم أني ثقيلٌ عليك بنصحي، فقد رميتك لمعترك الحياة ولما تزحف بها بعد، فاعذر أباً تلجلج منه اللسان لمرآك، واختلج منه الوجدان للقياك، ولعلك إن جرت المقادير بك فوقفت من الحياة موقفي هذا، أن تحس بما أحس، وتعالج من الشعور ما أعالج.. وحينها؛؛ ربما عذرت..
--------------
مشاركة من /سعادتي في صلاتي /بلخزمر
--
يتبع