بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله الله وبعد
فهذه عدة وقفات حول الفهم الشرعي لحديث المصطفى صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم : " أخرجوا المشركين من جزيرة العرب " ( البخاري 2825 ، مسلم 3089 ) ، نسأل الله جل شأنه أن ينفع بها .
الوقفة الأولى :
ما المراد بالمشركين ؟
إن المراد بهم كل من لم يكن مسلماً ، وهذا ما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم كما في حديث عمر رضي الله عنه : " لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلماً " ( مسلم 3313 ، أبو داود 2635 ، الترمذي 1532 )
وقوله كذلك في حديث عائشة رضي الله عنها : " لا يُترك في جزيرة العرب دينان ( أحمد 25148 ، الطبراني في الأوسط 1116 ) ، قال الهيثمي في ( مجمع الزوائد ) 5 / 325 : " رواه أحمد والطبراني في الأوسط ورجال أحمد رجال الصحيح غير ابن إسحق وقد صرح بالسماع " ، وقد صححه الدارقطني كما في نصب الراية 3 / 454 .
لذا .. فإن من الخطأ وسوء الفهم – بل وربما الهوى – أن يخصِّص البعضُ هذا الحديث على ببعض الجنسيات ( كالأمريكية والبريطانية ) دون بعض !
الوقفة الثانية :
هل يدخل فيهم من له عهد أو أمان ؟
لا شك أن أصحاب العهد أو الأمان غير داخلين في هذا الحكم ، وذلك من ثلاثة أوجه :
الوجه الأول :
أن الأمر بالإخراج نص عام والأمر بحفظ دم صاحب العهد نص خاص ، فيبقى الخاص مستثناً من هذا العموم ، قال صلى الله عليه وسلم : " من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً " ( البخاري 2930 ) .
الوجه الثاني :
أذن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحاب الحاجات بدخول جزيرة العرب ، فقد قال لرسولي مسيلمة : " لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما " ( أبو داود 2380 ، وصححه الألباني ) .
الوجه الثالث :
أن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم لم يقوموا بإخراج الأجراء والعبيد ، فقد كان قتل عمر رضي الله عنه بالمدينة وكان قاتله عبداً مملوكاً للمغيرة بن شعبة وهو ( أبو لؤلؤة المجوسي ) ، فهذا إجماع من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم في فهم الحديث .
لذا .. فمن اعتدى على أصحاب العهد والأمان واستند على هذا الحديث فقد أخطأ في فهم الحديث وأتى بفهم لم يعرفه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم .
الوقفة الثالثة :
ما المراد بالإخراج ؟
المراد به الخروج على الحقيقة ، وذلك من ثلاثة أوجه :
الوجه الأول :
أنه المعنى الظاهر المتبادر إلى الذهن من الأمر بالإخراج .
الوجه الثاني :
تفسير النبي صلى الله عليه وسلم له ، وذلك حينما جاء إلى اليهود وقال لهم : " إني أريد أن أجليكم من هذه الأرض " ( البخاري 2931 ، مسلم 3311 ، أبو داود 2609 ) .
الوجه الثالث :
عمل عمر رضي الله عنه حينما أجلى اليهود ( البخاري 2124 ، مسلم 2899 ) .
فائدة :
الإجلاء هو الخروج مع المفارقة ( كما في النهاية لابن الأثير 1 / 803 ) .
لذا .. فإن من الخطأ أن يتم تطبيق الحديث بالاعتداء على المشركين، بل هو فهم لم يعرفه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم.
الوقفة الرابعة :
هل يدخل فيه ( أو : يلزم منه ) القتل ؟
لا يدخل فيه القتل ، بل لا يجوز ، وذلك من ثلاثة أوجه :
الوجه الأول :
أن النص إنما جاء بالإخراج، فلم يبح لنا ما سواه ، ومن أباح القتل فقد أباح أمراً زائداً على الإخراج فلزمه الدليل وإلا فلا اعتبار بما يقول .
الوجه الثاني :
أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمرهم بالخروج ولم يستبح دمائهم .
الوجه الثالث :
فعل عمر رضي الله عنه المطابق لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث أمرهم بالخروج ولم يقتلهم أو يقاتلهم ، وقد أقره الصحابة على ذلك فكان إجماعاً من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم .
لذا .. فإن من الخطأ الاستدلال بالحديث على قتل المشركين .
الوقفة الخامسة :
هل المراد منع دخولهم مطلقاً أم أمر آخر ؟
المراد بالأمر بإخراجهم أحد أمرين :
الأول : ألا تكون لهم إقامة دائمة في جزيرة العرب .
والثاني : ألا يكون في جزيرة العرب دين ظاهر بشعائره غير دين الإسلام .
فالأمر الأول: يعني جواز الإقامة المؤقتة غير الدائمة.
والأمر الثاني: يعني جواز بقاء من يدين بغير دين الإسلام في خاصة نفسه بحيث لا يظهر شعائر دينه .
والدليل على هذا من وجهين :
الوجه الأول :
قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم : " لا يُترك في جزيرة العرب دينان " ، مع إذنه صلى الله عليه وسلم لبعض الكفار بالبقاء في جزيرة العرب حيث عامل يهود خيبر على أموالهم وقال : " نقركم ما أقركم الله " ( البخاري 2528 ) ، كما كان يأذن للرسل بدخول الجزيرة ، وقد قال الله تعالى : {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ }التوبة6، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بربط الأسير الكافر في المسجد .
الوجه الثاني :
لم يقم الصحابة الكرام رضوان الله عليهم بإخراج الأجراء والرقيق من جزيرة العرب .
لذا .. فمن الخطأ أن يحمل الحديث على وجوب إخراج كل مشرك في كل حال .
الوقفة السادسة :
من المخاطَب بهذا الحديث ؟
المخاطب بذلك هو ولي الأمر ، والدليل عليه من وجهين :
الوجه الأول :
أن الحديث جاء ب، ( واو ) الجمع ، والأصل في النصوص الشرعية التي تأتي بالجمع ويراد بها جماعة المسلمين فإنها تتوجَّه لمن يمثل جماعة المسلمين وهو ولي الأمر ، ونضير ذلك قوله في السارق والسارقة : " فاقطعوا أيديهما " ولا يقول أهل السنة بأن المأمور بإقامة الحدود هو كل أحد من أفراد المسلمين ، بل هو خطاب خاص بولي الأمر .
الوجه الثاني :
أن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم لم يعترضوا على ولي الأمر ، فلم يخرجهم أبو بكر رضي الله عنه ولا عمر رضي الله عنه في صدر خلافته ، ومع هذا فلم يفهم أحد من الصحابة أن الأمر يعود لكل أفراد المسلمين ، لذا لم يقوموا بإخراجهم ، بل جعلوا ذلك في يد ولي الأمر .
يقول الإمام بدر الدين العيني: «إذا كان للمسلمين ضرورة إليهم لا يتعرض لهم ألا يرى أنه –صلى الله عليه وسلم- أقر يهود خيبر بعد قهر المسلمين إياهم لإعمار أرضها للضرورة وكذلك فعل الصديق -رضي الله عنه- في يهود خيبر ونصارى نجران » عمدة القاري(15/90)
وما أجمل ماقاله ابن القيم – رحمه الله – في حاشيته على سنن أبي داود إذ يقول: وهذا موضع يغلط فيه كثير من قاصري العلم ، يحتجون بعموم نص على حكم ، ويغفلون عن عمل صحابة الشريعة وعمل أصحابه الذي يبين مراده ومن تدبر هذا علم به مراد النصـــــوص وفهم مــــعانيها. انتهى من حاشية شرح سنن أبي داود: 3/288
لذا .. فمن ظن ان الحديث يخاطب كل فرد من أفراد المسلمين فقد أخطأ وأتى بفهم لم يعرفه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم .
الوقفة السابعة :
ما الموقف من ولي الأمر فيما لو قصَّر في تطبيق هذا الحديث ؟
الموقف يتلخص في أربعة أمور :
الأمر الأول : الصبر .
قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عباس رضي الله عنه : « من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر ، فإن من فارق الجماعة شبراً فمات ؛ فميتةٌ جاهلية » ( البخاري 7053 ، مسلم 7467 ) .
الأمر الثاني : الدعاء له .
فإن منهج أهل السنة والجماعة أن يدعون له بالصلاح ، فإن في صلاح ولي الأمر صلاح للبلاد .
الأمر الثالث : مناصحته بالتي هي أحسن .
جاء في حديث تميم بن أوس الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الدين النصيحة " قلنا : لمن ؟ قال : " لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " ( مسلم ، أبو داود 4293 ، الترمذي 1849 ، النسائي 4126 ) .
الأمر الرابع : بقاء السمع والطاعة له وعدم الخروج عليه بالمعصية .
قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه : دعانا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبايعناه . فكان فيما أخذ علينا : أن بايَعَنا على السمع والطاعة ؛ في منشطنا ، ومكرهنا ، وعسرنا ، ويسرنا ، وأثرة علينا ، وألا ننازع الأمر أهلَه . قال : « إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان » ( البخاري 7055 ، مسلم 4748 ) .
قال النووي رحمه الله : « وأما الخروج عليهم وقتالهم : فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين , وقد تظاهرت الأحاديث على ما ذكرته , وأجمع أهل السنة أنه : لا ينعزل السلطان بالفسق » ( شرح صحيح مسلم ، تحت الحديث رقم 4748 ) .
الوقفة الثامنة :
ما المراد بجزيرة العرب في الحديث ؟
اختلف العلماء في تحديد المراد بجزيرة العرب ، إلا أنهم متّفقون على أنها ليست هي الجزيرة العربية التي في اصطلاح الجغرافيين !
فقال الإمام الزهري: جزيرة العرب: المدينة، وقال المغيرة بن عبد الرحمن: جزيرة العرب: المدينة ومكة واليمن وقرياتها.
وقال مالك: هي مكة والمدينة واليمامة واليمن.
وقال الحنفية: يجوز دخول المشركين جزيرة العرب مطلقاً إلا المسجد، وقال مالك: يجوز دخولهم الحرم للتجارة.
وقال الشافعي: لا يدخلون الحرم أصلاً إلا بإذن الإمام لمصلحة المسلمين خاصة، ومنهم من قال: إن المراد بجزيرة العرب الحجاز خاصَّة. انتهى.
انظر: التمهيد لابن عبد البر(1/172), وفتح الباري(6/171) وألَّف الحسين بن محمد بن سعيد اللاعى المعروف بالمغربى، قاضي صنعاء ومحدثها رسالة في حديث: ((أخرجوا اليهود من جزيرة العرب)) رجح فيها: أنه إنما يجب إخراجهم من الحجاز فقط محتجاً بما في رواية بلفظ: ((أخرجوا اليهود من الحجاز)) البدر الطالع(1/230)، والأعلام للزركلي(2/256).
وقال النووي رحمه الله : ( لكن الشافعي خصَّ هذا الحكم ببعض جزيرة العرب وهو : الحجاز ، وهو [ أي : الحجاز ] – عنده – : مكة والمدينة واليمامة وأعمالها , دون [ أي : ما عدا ] اليمن وغيره مما هو من جزيرة العرب ) ( شرح صحيح مسلم ، تحت الحديث رقم 4208 ) .
بل قال ابن حجر عن قول الشافعي رحمهما الله أنه : ( مذهب الجمهور ) ( فتح الباري 6/198 ، تحت الحديث رقم 3053 )
وفي اختيارات ابن تيمية رحمه الله : ( ويُمنعون من المقام في الحجاز , وهو [ أي : الحجاز ] : مكة والمدينة واليمامة والينبع وفدك وتبوك ونحوها وما دون المنحني ، وهو عقبة الصوان من الشام كمعان ) ( اختيارات البعلي ص 264 )
وقال ابن تيمية رحمه الله : ( وقد أمر النبي في مرض موته أن تخرج اليهود والنصارى من جزيرة العرب – وهي الحجاز – فأخرجهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه من المدينة وخيبر وينبع واليمامة ومخاليف هذه البلاد ) ( الفتاوى 28/630 )
فإن قال قائل :
ما الدليل على بطلان حمل الحديث على جزيرة العرب التي في اصطلاح الجغرافيِّين ؟
فالجواب :
ما حكاه ابن حجر رحمه الله من اتّفاق العلماء على إخراج اليمن من الحكم النبوي ، مع أنها داخلة في جزيرة العرب عند الجغرافيين .
قال رحمه الله عن جزيرة العرب : ( لكن الذي يُمنع المشركون من سُكناه منها : الحجاز خاصّة ؛ وهو : مكة والمدينة واليمامة وما والاها , لا فيما سوى ذلك مما يُطلق عليه اسم جزيرة العرب ؛ لاتّفاق الجميع على أن اليمن لا يُمنعون منها مع أنها مِن جُملة جزيرة العرب ) ( فتح الباري 6/198 ، تحت الحديث رقم : 3053 )
فخروجها عن حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع دخولها في حكم الجغرافيين :
دليل قاطع على تباين الحكمين ، وبرهانٌ على سقوط الاستناد على الاصطلاح الجغرافي في فهم المراد النبوي .
الوقفة التاسعة:
هذا ما يسره الله من تأملات في فقه هذا الحديث ،
نسأل الله أن يعز دينه ويعلي رايته وينصر سنة نبيه وأن يوفق جميع المسلمين لكل خير ،
والله أعلى وأعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته