فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ
بسم الله الرحمن الرحيم
العالم من حولنا أشبه بمعرض فنّي كبير تتنوّع فيه اللوحات الجميلة والمناظر البديعة
فلو أجلنا النظر في بعض هذه اللوحات لرأينا ...
مثلاً منظر الأمّ وهي تظلّل طفلها الرضيع بأنفاسها الدافئة وابتسامتها الحانية وشغفها الذي لايحدّ
ولرأينا الطفل حين تلتقي نظراته الراضية بنظرات أمّه الباسمة يكتمل المشهد الجميل
وهذه الطبيعة التي ارتدت أحلى حللها في أيّام عرسها ـ أيّام الرّبيع ـ قد لا يرى البعض منها سوى هذا الزيّ الأخضر الموحّد
فيما تلتقط عيون شاعرية مرهفة جمال الربيع على أ نّه اندلاع للخضرة في الحدائق والبساتين التي كانت تغطّ قبل أيّام في سبات وموات
فإذا بالخضرة الزاهية تتدفق في السهول ومن بين الصخور وتشرق الأشجار بألوان الزهور
فيشعر الإنسان بدفق الحياة ونبضها وهو يتلقّى تحايا الربيع الندي العَطِر الضحوك .
وهذا الذي يتأهّب للصلاة مشمّراً عن ساعديه يسبغ وضوءه ثمّ يستقبل القبلة مكبّراً ..
قائماً قارئاً .. وراكعاً وساجداً مسبِّحاً مهللاً ..
لا ينفتل إلاّ عن لوحة روحية تفيض بالجمال الباعث على الطمأنينة وبهجة السلام
وهؤلاء الذين يُهرعون إلى لقاء الله في ربى مكّة أيّام الحج مرتدين ثوبي الإحرام مهلّلين مكبّرين ملبّين ..
تتدفّق جموعهم كالسيل الأبيض على اختلاف ألوانهم ..
يطوفون في فلك البيت المعمور ..
ويسـعون بين (الصفا) و (المروة) ويرمون الجمرات في وحدة حركة ووحدة اتِّجاه ..
لوحة على غاية من السحر والجمال والجلال لن يكون بوسع أعظم فناني الكون أن يأتوا بمثلها
إنّ منظر الأمّ في اللوحة الأولى يبدو أجمل لو نظرنا إليه من خلال الرحمة المغروسة في أعماقها والتي لا تدخر شيئاً منها لوليدها الحبيب ، بل تغدقها لطفاً وحناناً وحبّاً ورأفة ..
إنّها لوحة الجمال الرّحيم
ومنظر الطبيعة في اللوحة الثانية لا يرتسم من خلال خضرة دفيقة وزهور أنيقة ونسـائم عليلة وخرير مياه لثلوج ذائبة ، إنّما أيضاً من خلال هذا الانبعاث للحياة من مرقدها ..
إنّها لوحة الانبعاث الأخضر الجميل
والمصلِّي في اللّوحة الثالثة ، فيما يعبّر من طاعة لمولاه وخشوع وضراعة وتسبيح ومناجاة بين يديه ، ينقل لنا صورة الانسان المسلم الذي يسمو
.. ويتروّح .. ويُشيع في نفسه وفيمن حوله جمالاً أخّاذاً شفّافاً محلّقاً ..
إنّها لوحة السكينة الروحية التي تفيض جمالاً
وفي لوحة الحجيج يندغم اللون الواحد والحركة الواحدة والنداء الواحد إحراماً وطوافاً وسعياً ورجماً ..
إنّها اللوحة التي تتناسق فيها الأضواء والظلال فتبرز في هيئة التلبية لنداء الحشر يومَ يقومُ الناسُ لربّ العالمين ..
إنّها لوحة فيها من الجمال والجلال والبهاء ما يجعلها تأخذ بالألباب قبلَ الأبصار
هذه اللوحات ، وفي المعرض الكونيّ غيرها كثيرٌ وكثير ، تجعلنا نتأمّل في هذا الإبداع الربّاني الذي لا يطاوَل ولا يحاوَل
إنّ كلّ لوحة من لوحات هذا البديع الواحد الأحد هي نافذة واسعة نطلّ منها على جمال أجمل وهو اليد الصانعة التي تتفنّن في الصنع الملوّن الفريد والتي لا يعجزها شيء :
(ا لَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) . ( آل عمران / 191 )
وإذاً ، فإنّ التفكّر والتأمّل في جمال الكون ، على أ نّهما متعة ، فإنّهما بابان من أبواب المعرفة ، سواء المعرفة الإلهيّة أو المعرفة الكونية
ولذا كان من حقّ ذلك الشاعر الذي هزّه منظر الربيع أن يستوقف صاحب السيارة التي كانت تنهب الأرض ، ليقول له :
هذي الطبيعةُ قف بنا يا ساري
حتّى أريكَ بديعَ صنعِ الباري
إذ كم من الناس من لهم عيـون لا يبصرون بها ، وإذا أبصروا لا يبصرون إلاّ السطح الظاهري من الأشياء :
(يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) . ( الروم / 7 )
فمن بين مساوئ الحياة التي يعيشها إنسان هذا العصر هو التطلّع إلى الأشياء المادّية الجميلة الصامتة التي صرفته عن البحث عن الأشياء الجميلة النابضة والناطقة .
ليطرح كلٌّ منّا على نفسه هذه الأسئلة :
منذُ متى وأنا لم أرمِ ببصري يسرح ويرتع في ملكوت السّماء من قمر يجري ونجوم سابحة في هذا الفضاء الأزرق الأرحب المهيب ؟!
منذ متى وأنا لم أستيقظ في الصباح الباكر لأتأمّل منظر الشروق البهيّ ؟ ولأتذوّق مشهد الحياة وهي تفتح أجفانها للنور ؟ وكيف ترفل الورود في أغصانها مندّاة بحبّات متألقة من الماس الشـفيف ؟ وكيف تزقزق العصافير منتشية بمولد نهار جديد ؟!
منذ متى وأنا لم أخل إلى نفسي لأحدّق في واحدة من نعم الله عليَّ، وهي هذه النافذة التي أُطلّ بها على العالم من حولي ، وهي عيني.. هذه التي يجتمع على عدستها المشهد الجميل كلّه ، فترى ما علا منها ودنا ، ولا ترى نفسها إلاّ بمرآة ؟!
إنّ من بين أخطر مخاطر عصرنا هو أ نّه يصرفنا عن التأمّل المتلبّث في مشاهد الكون المشرعة بالجمال حتّى بتنا....
نقرأ الأشياء قراءة عامّة
ونتصفّح كتاب الكون من خلال عناوينه العريضة
في حين غابت القراءة التفصيلية لجمال الأشياء الذي يعطينا من الانطباعات ما لها مردودات نفسية وفكرية كبيرة ، لو كنّا فاعلين .
همسة
قد يكون الجمال في هذه الشؤون الصغيرة التي لا نعيرها التفاتاً
ولو وقفنا عندها برهة لتلمّسنا معاني للجمال كنّا قد أغفلنا عنها ففاتنا خير كثير بسبب من هذه الدوّامة من صخب الحياة التي لا تتيح لنا وقفة متأنِّية تعيدنا إلى أنفسنا وإلى ربّنا وإلى ما في الكون من آيات الجمال التي لا نحتاج معها إلى فلسفة غارقة في المعمّيات حتّى نهتدي إلى بارئها الذي نردّد مع كلّ كائن من كائناته صغيراً كان أم كبيراً :
(فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) . ( المؤمنون / 14 )
-------------
للفايدة