علاقة الإنسان بالإنسان
1- بين النظائر.
2- بين الأصول والفروع (الآباء والأبناء).
{إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ * وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد: 19 - 25].
علاقة الإنسان بالإنسان:
بعد استعراض العلاقات الإنسانيَّة أولاً مع الغيب، ثم مع المخلوقات المحيطة به من كلِّ اتجاه فيما تقدَّم من أبواب، وعلى ضوء ما وصلنا إليه من نتائج توضِّح كيف أنه لا يوجد في الدنيا كلِّها شيءٌ خلقه الله لهوًا ولعبًا، وكيف أن الإنسان بقدراته وإمكانياته لم يُخلق عبثًا، كما أكَّد ذلك رب العالمين - نتعرض لأعقد علاقة للإنسان وأكثرها تداولاً وجدلاً؛ لأن علاقة الإنسان بأصوله (الوالدين وإن علوا)، أو بفروعه (الأبناء وإن نزلوا)، أو بذوي أرحامه (الأقارب من الوالدين)، أو حتى بالأباعد، كلُّها علاقات متشابكة متماسكة متسلسلة كحبات المسبحة، إذا انفرط طرف العقد، تساقطت كلُّها واحدة بعد الأخرى.
والمثل الأعلى في علاقة الإنسان ضَرَبَه المجتمع المؤمن، الذي قال فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمَّى))، فالإنسان هو نقطة الارتكاز في دائرة المجتمع، وهو - أيضًا - المحيط والقطر والمساحة.
وحينما نوجِّه الكلام للإنسان المفرد في أيِّ موقع كان، وفي كلِّ مراحل عمره، يكون الكلام قد انسحب إلى كلِّ المجتمع في آنٍ واحدٍ، وربما يختلف أسلوب الكلام من ظرفٍ لآخر، أو من شخص لآخر حسب الموقف، مع أن المضمون واحدٌ؛ حيث لكلِّ مقامٍ مقالٌ، كما قال أحد الحكماء: "أيها الشيوخ، أكثروا من الحسنات؛ فإن سيئاتكم كثيرة، ويا معشر الشباب، أقِلُّوا من الذنوب؛ فإن حسناتكم قليلة".
ومما لا شكَّ فيه أن التعرُّض لمسألة العلاقات الإنسانية عمومًا، ومع أخيه الإنسان خصوصًا، يجب أن تكون بالحِكْمة والموعظة الحسنة؛ لأن المنافس الذي يدْعو إلى الاتجاه المعاكس، ويريد أن يوقِع بيننا العداوة والبغضاء أبدًا، مع أنه يدعو إلى الضلال،
إلاَّ أنَّ أسلوبه معسولٌ مذهب، وطريقة الاستدراج عنده مُحْكَمة إلى حدٍّ بعيد، وأحْرَى بنا أن نكون ألين،
والدعوة عمومًا لا تُثْمر إلا في إطارها الخصب: فكر صحيح، بتواضع متكامل، وأسلوب هادئ، كلُّ هذا مشفوعًا بصبرٍ جميل، ولا ننس أبدًا أن أقوى سُبُل الإقناع هو الإيحاء، كما أن قوةَ الشيطان تكمن في الوسوسة، وكلاهما صوت حقيقي (الإيحاء - الوسوسة)، وعلى العكس نجد أن أعلى الأصوات أنكرها، قال - تعالى - في وصايا لقمان الحكيم لابنه وهو يعظه: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19].
ويجب أن نقف على أرضيَّة فكريَّة صلبة؛ لمداولة هذه العلاقة الشائكة المعقَّدة، مع الوضع في الاعتبار ما ورد عن السلف الصالح أنهم قالوا: "مَن ألَّف كتابًا استُهدف"، ونحن في غنًى عن فتح أبواب العداء على أنفسنا مع أيِّ طَرَفٍ كان، ولكن الحقَّ أحقُّ أن يُتَّبع.
ولبناء الكلام وتشييده؛ نرسي أولاً القواعد التي نرتكز عليها على أساس التوجيه الإلهي، نذكر منها على سبيل المثال لا على سبيل الحصر:
1- يقول - تعالى -: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38].
2- يقول - تعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
3- يقول - تعالى -: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16].
ولترتيب الكلام ترتيبًا منطقيًّا؛ نرتِّب الأولويات كما قال - تعالى -: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة: 34، 35].
ولابدَّ أن يكون الابتداء بعلاقة الإنسان بوالديه؛ لأنها الأساس والركيزة، وهي أولى المعاملات، وأصل العلاقات، ومَن ساءت علاقته بوالديه فلا خير يُرجى منه في باقي العلاقات،
ومَن عقَّ والديه، فمن باب أولى أن يعق المجتمع، ويعيث في الأرض بالفساد والقطيعة، وعندئذٍ نفتقد الخضر - عليه السلام - ونذكر له تدخُّله في قصة الغلام الذي كان أبواه صالحين، وتفاصيل القصة في سورة الكهف.
ثم بعد الوالدين بصفتهما أصل النشأة، نأتي إلى الفروع، وهم الأبناء، ثم الأرحام والأقارب عمومًا، ثم تتوالى تِباعًا بقيَّة السطور عن العلاقات مع الإنسان، والأزواج، والجيران، والأباعد، حسب ما تمَّ تأصيله في الأصول والفروع.
ولتنسيق الكلام وتوثيقه؛ نذكر أن هذه العلاقات يجب أن تكون متوازنة دون إفراط أو تفريط، كما قال سُقْراط عندما سأله تلاميذه عن سبب المشاكل التي بين الناس، قال: "القرب الشديد أو البُعد الشديد، قيل: وما الحلُّ؟ قال: الاعتدال في ملامسة الناس"،
وجاء: "أحبب حبيبك هونًا ما؛ ربما يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونًا ما؛ عسى أن يكون حبيبك يومًا ما"، وصدق الله العظيم إذ وضَّح ذلك من قبل ومن بعد، بقوله - تعالى -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143].
هذه الوسطيَّة التي تحتِّم علينا الاحتفاظ بصلةٍ ما مع الجميع بصرف النظر عن معتقداتهم، وإن كانت المعتقدات أحيانًا في بعض المسائل تحدِّد مدى القرب المناسب من الغير، سواء كان هذا القرب على هيئة موالاة، أو مودة، أو رفقة وصحبة، أو تلاقٍ موقوت، وربما تعادٍ.
فقد تدفعك الظروف إلى موقف مُعاداة مع شخصٍ ما، أو فكرٍ ما، وفي هذه الحالة يجب عليك أن ترتِّب أوراقك على أساس قوله - تعالى -: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت: 34]،
وكما ورد "أبغِض بغيضك هونًا ما؛ عسى أن يكون حبيبك يومًا ما"، ونُسب هذا الكلام إلى سيدنا علي بن أبي طالب موقوفًا.
ومن الملاحَظ أن كلَّ القوانين التي وضعها البشر تتناوَل تنظيم العلاقات بين الناس في إطار محدودٍ، بحيث تنسق تبادل المنافع مع تحجيم العداوات والخلافات، وتوزيع الحقوق والواجبات في الأمور المتعلِّقة بالمصالح المتبادلة، وتمنع بالتالي تصادم الاتجاهات.
أمَّا كيف تكون المودَّة والتآلف والتراحم بين الناس، فهي أمور لم يتطرَّق إليها القانونيون من قريب أو بعيد، وكأنما تركوا هذه المسائل للوازع الديني أو الضمير الإنساني كما يقولون، مع أن الميول الدينية تختلف من شخصٍ لآخر، كما أن الضمير الإنساني يتشكَّل حسب ظروف كلِّ فئةٍ من البشر، بما يتماشى مع ثقافاتهم ومصالحهم وعاداتهم وأخلاقهم،
فما يأباه الضمير في المجتمعات الشرقية، يقبله الضمير في المجتمعات الغربية، والعكس صحيح أحيانًا، والأقليات المسلمة المضطهَدة في الغرب خير دليل على ذلك، وحتى في القليل من القوانين التي حاولت تنظيم شكلٍ من أشكال العلاقات، فشِل القانونيون في وضع الأمور في نصابها، ولعبت الأهواء دورًا بارزًا في تلك النظم.
وتصدَّت الشرائع السماوية لهذه المسائل، إلا أنها اعتراها التبديلُ والتحريف بما يحقق مصالح فئات معيَّنة من القائمين عليها، وانفردت الشريعة الإسلامية بوضع تنظيم دقيق مُحْكم وعادل لكلِّ ما يتعلق بالصلات بين الناس في كلِّ حالات ومناحي الحياة، بما يحفظ للحياة رونقَها وجمالها،
وللأحياء أمنَهم وكرامتهم، وما كانت المستجدات التي نراها في الساحة البشرية عمومًا، وفي الأوساط الإسلامية خصوصًا، إلا عندما تخلَّى الناس - جلُّهم - عن الفطرة القويمة {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30].
لأن الشريعة الإسلامية لم تُغفل صغيرةً ولا كبيرةً في العلاقات مع الغير، حتى وإن كان هذا الغير من الذين لم يبلغوا الحُلُم، فكيف بعد أن يبلغ الأطفال الحُلُم، وكيف إذا شبُّوا وترعرعوا، وفي ذلك كانت الوصية العربية التي تقول: "لاعب ولدك سبعًا (أي: سبع سنوات)، وأدِّبه سبعًا، وصاحبه سبعًا، ثم اترك له الحبل على الغارب"[1] ، أما إذا اختلَّت المسألة من بدايتها، فإن النتيجة خاسرة، ولا يستقيم الظلُّ والعود أعوج.
أولاً: بين الأصول والفروع (الآباء والأبناء):
بناءً على ما تقدَّم، وإذا جاز لنا أن نساهم في تنظيم علاقات الإنسان بمن حوله من البشر، فأول ما نتعرَّض له هو التنظيم الإلهي لعلاقة الإنسان بوالديه، حيث إن نسبة هذه العلاقة في المعاملات كالصلاة في العبادات؛ لأن في العلاقة بالوالدين أمر الله - سبحانه - أن تكون إحسانًا: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23].
وقد بيَّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الإحسان في العبادات: ((أن تعبدَ الله كأنك تراه))، وأنقى صورة لهذه العبادة تكون في الصلاة.
وكما أنَّ الصلاة هي عماد الدين، فإن العلاقة بالوالدين هي عماد الخُلُق الفاضل، وهي الأساس الذي ترتكز عليه كلُّ العلاقات الإنسانية مع الخَلْق، وبالتالي فهي البوابة الرئيسة التي تدخل منها إلى بقية المداخل.
وكما أنَّ الصلاة لا تسقط فرضيتها عن الإنسان في أيِّ حال من الأحوال؛ مريضًا كان أو مسافرًا، فكذلك علاقة الإنسان بوالديه يَجب أن تكون موصولةً، بصرف النظر عن ظروف الحياة التي تحيط بالأبناء والآباء، وبصرف النظر عن معتقدات الأطراف كلِّها، وبصرف النظر عن مكان حياة الأبناء أو الآباء، ولا تنتهي أهمية هذه العلاقة الوطيدة حتى بعد موت أحد الأطراف،
فإن عمل ابن آدمَ ينقطع عن الدنيا إلاَّ من ثلاث: أولهم: ((ولدٌ صالح يدعو له)).
والعلاقة التي لا تنتهي بموت الإنسان لهي أجدر العلاقات التي يجب على الإنسان أن يحافظ عليها، ويبذل من أجلها كلَّ شيءٍ، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: ((رغم أنف رجل أدرك والديه أو أحدهما، ولم يدخلاه الجنة)).
والله - سبحانه وتعالى - وهو عليم بما في الصدور، نظَّم لنا هذه العلاقة ابتداءً من مرحلة ما قبل الميلاد، وأنت ما زلت نطفة في صلب والدك، فحدَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف يختار الرجل زوجته؛ حتى لا يأتي لأولاده بعد ذلك بأمٍّ غير صالحة، فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((تُنكَح المرأة لأربع: لمالها، لشرفها، لجمالها، لدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك))[2]
ويقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: ((خير النساء مَن إذا نظرتَ إليها سرَّتْك، وإذا أمرتَها أطاعتْك، وإذا أقسمتَ عليها أبرتْك، وإذا غبتَ عنها حفظتْك في نفسها ومالك)).
ولبناء مجتمع قوامه الآباء والأبناء؛ لا بدَّ من وضع اللبنة الأولى (التزاوج) على أساس متين؛ حتى لا يتصدَّع البُنيان الأسري عند أول هزَّة تعترض مشوار الحياة الزوجية.
فالعلاقة الزوجية يجب أن تكون علاقة متكافئة بين الزوجين في الحقوق والواجبات، مع تسليم قيادة السفينة الزوجية للرجل؛ بصفته رب الأسرة المؤهَّل لهذا الدور من كلِّ النواحي، والمرشَّح من قِبل الله - سبحانه - لهذه المسؤولية؛ لأن الأسرة هي المجتمع الصغير، ولا بدَّ من راعٍ يقودها،
وإلا دبَّتِ الفوضى، وتاهت المسؤولية، وتشرَّد الأبناء تباعًا، وبذلك يتفكَّك المجتمع الصغير، وبالتالي يتحوَّل المجتمع الكبير إلى غابةٍ يتصارع فيها الأقوياء، ويضيع فيها الضعفاء؛ ولذلك كانت وصية الرسول الكريم في خطبة الوداع شاملة، قال فيها: ((أيها الناس، اتقوا الله في النساء)).
ذلك لأن العلاقات الزوجية تعدُّ من أخطر العلاقات البشرية؛ لأنها إن حسنتْ، أنجبت للمجتمع حَمَلَة المشاعل الفكرية، وحُماة الحقِّ والعدل، وصُنَّاع الحضارة، وإن ساءت، أفرختْ عناكبَ تسري كالنار لتفسدَ كلَّ شيءٍ أتتْ عليه.
-------
يتبع