عرض مشاركة واحدة
قديم 20-01-2014, 10:16 AM   #5333
الفقير الي ربه
كبار الشخصيات
 
الصورة الرمزية الفقير الي ربه
 







 
الفقير الي ربه is on a distinguished road
افتراضي رد: كلمات مـــــــن القلــــب الــى القلـــــــب

ولنرتِّب الأحداث ترتيبًا زمنيًّا، ونبدأ مع الصدِّيق النبي الابن البار، ينشأ في وسطٍ يعكفون على عبادة الأصنام، فينكرُ ذلك بقلبه مرةً، وبلسانه مرةً، وبيده مرةً أخرى، وقد شقَّ على قلبه أن يجد الناس يعبدون آلهةً دون الله، فاتَّجه إلى أبيه أقرب الناس إليه؛
ليخرجه من ظلمات الجهل والضلال إلى نور المعرفة بالله {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42].
فيبدأ سيدنا إبراهيمُ خطابَه بألين أسلوب ممكن، يقول: (يا أبتِ)، ولا يهاجم أباه ولا آلهته من أول مرةٍ، ولكنه يفنِّدُ له واقعًا ملموسًا دون إهانةٍ، حيث إن الأصنام لا تسمع ولا تبصر، ويصل بإقرار الواقع الملموس إلى تقرير حقيقة ثابتة، هي أن الأصنام لا تغني عن أحدٍ شيئًا، وحتى لا يفلت عقلية الأب الجاهل من سلطان الحجَّة والبرهان إلى العناد؛ يقول له: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم: 43].
فيبرِّر له ما يقول، ويرجو له الهداية إلى الصراط المستقيم، ثم يحدِّد لأبيه المطلوب، ويبيِّن له العدو الحقيقي الذي أوهمهم بما هم فيه {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم: 44].
ويختار سيدنا إبراهيم اسم (الرحمن) في هذا الموضع بالذات؛ حتى يستلين قلب أبيه،

فلم يقل له: إن الشيطان كان للجبار عصيًّا مثلاً؛ حتى لا يحرك داخل أبيه نَعرة الكبرياء الأحمق، ثم يذكِّره أن الدافع من هذه الدعوة هو الخوف عليه بحقِّ البنوَّة، والخوف عليه أيضًا من عذاب الله بسبب موالاة الشيطان، ولا ينسى أن يكرِّر على مسامع أبيه كلمة (يا أبت)؛ لعلَّه يحنُّ ويتصرَّف بدافع الأبوة، فيقول له: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم: 45].
حنان ما بعده حنان من ابن بارٍّ لأب فاجر، وحتى حينما وجد سيدنا إبراهيم بعد كلِّ هذا الحنان والأدب ردَّ الفعل جافًّا، حين قال له أبوه: لئن لم تنتهِ لأرجمنك،

وأمره بالابتعاد عنه قائلاً: واهجرني مليًّا، لم يكن سيدنا إبراهيم الرشيد فظًّا عاقًّا، ولم يفقد الأمل، ولم ييْئَس، ولم يقطع حبال الوصل مع أبيه؛ وإنما {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47].
وفي نفس الوقت لم يضعف أمام هذا التعنت، إنما انصرف عنهم بالتي هي أحسن.
وفي الجانب الآخر من حياة سيدنا إبراهيم، حينما أصبح أبًا بعد أن بلغ من الكِبَر عتيًّا، وبعد أن ظلَّ يناجي ربَّه أن يرزقه ولدًا صالحًا {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100]، وأجابه الله القدير بطلبه ورزقه الولد {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101]، لا ينسى الوالدين وقد كان نعم الابن: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41].
اللهم صلِّ وبارك على سيدنا محمد وعلى آله، كما صليت وباركت على سيدنا إبراهيم وعلى آله، وصدق الله العظيم إذ يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الممتحنة: 6].
ب- آباء صدق، وتعسًا للأبناء:
ضرب الله - سبحانه وتعالى - لنا مثالاً آخر لمن يعقُّ الوالدين، وكيف أن العاقَّ والديه لا يفلح ولا يغني عنه صلاح الآباء من الله شيئًا، فترى أن نبوةَ أبٍ، وطول بقائه بين أبنائه، ودعوته لدين الله ليلاً ونهارًا، ومحاولته مع قومه إعلانًا وإسرارًا - كلُّ هذا لم يكن ينفع مع الذين ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، حتى ولو كانوا أبناءهم،

وكما قال الشاعر:
وَمُوسَى الَّذِي رَبَّاهُ فِرْعَونُ مُؤْمِنٌ
وَمُوسَى الَّذِي رَبَّاهُ جِبْرِيلُ كَافِرُ
فنجد أن سيدنا نوحًا - عليه السلام - وقد مكثَ في قومه حوالي ألف سنةٍ، لم يؤمن معه إلاَّ قليلٌ، وكان الأكثر من الكافرين، وكان ابنه مع الكافرين، وعندما انتهى سيدنا نوح من بناء السفينة بأمر من عند الله - سبحانه - وحمل معه على السفينة من كلٍّ زوجين اثنين، ومن آمن معه وأهلَه،

نادى - عليه السلام - على ولده الذي رفض الإيمان معه؛ أملاً منه أن يكون مع الناجين، وبعد أن يرى بعينيه ما يحلُّ بالكافرين، ربما يكون له رأيٌ آخر في عقيدته.
ولكن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فقد كان الابن - بالإضافة إلى كُفْره بدين الله - عاقًّا لوالده، وكما قابل نِعَم الله بالكفر، قابل حنانَ الأب بالجحود، وعمومًا كل إنسان يفعل ما هو أهلٌ له، وكل إناءٍ بما فيه ينضح، فالصالح يفكِّر بصلاحه {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود: 42].
والفاسد يضلُّ؛ لأنه انقاد للشيطان الذي يأمر بالسوء والفحشاء {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود: 43].
ويستمرُّ الأب الصالح في محاولته؛ لينقذ ابنه من براثن الشيطان، وليبعده من نقمة الله وعقابه {قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود: 43].
ولكن الله بالغ أمره، وهو أعلم بالظالمين، وقد حكم بالحقِّ، وهو خير الحاكمين، ويا نوح لا تذهب نفسك حسرات عليه؛ لأنه عمل غير صالح {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود: 43].
وانظر عزيزي القارئ كيف كان عاقبة المكذبين؟! وكيف فعل الشيطان بالإنسان حين عشش في رأسه وباض وأفرخ؟ فاحذر مكايد الشيطان، وتعلَّم من أنباء ما قد سبق {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49].
وقصة ثانية تدور بين والدين صالحين مؤمنين ولهما ابنٌ عاقٌّ أرهقهما طغيانًا وكفرًا، فقال لوالديه: أفٍّ لكما {وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقّ} [الأحقاف: 17].
ورفض هذا الابن الإذعان لنداء الحقِّ، وضلَّ ضلالاً بعيدًا، وأتْبَعه الشيطانُ فكان من الغاوين، وحقَّ عليه القول فكان من الخاسرين، وعرَّض نفسه ليجازى بعذاب الهوى لأنه كان من المستكبرين بغير الحقِّ وكان من الفاسقين {فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأحقاف: 17]، فسار على نهج الضالين، وكلُّهم حطب جهنم مع جنود إبليس وجنود فرعون وهكذا يكون مصير الظالمين والمجرمين {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان: 29].
وعلينا أن نتعلَّم من سيرة الأمم التي خلَتْ من قبلنا، ونتجنَّب المهالك التي كانت للطاغين، ونرى كيف كان مصير الظالمين عند ربِّ العالمين، حيث يُكَبْكَبُ في النار كلُّ الغاوين وجنود إبليس أجمعون، وليس لهم شُفعاء عند ربهم ولا صديقٌ حميم.
جـ- خير خلف لخير سلف:
من أحسن القصص التي جاءت في القرآن الكريم قصةُ سيدنا يوسف - عليه السلام - حيث رشحها الله - سبحانه - لتكون على هذه الدرجة من الأهمية؛ حيث قال - سبحانه -: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3].
وقد تناوَل الله - سبحانه - في هذه القصةِ الأبوةَ الحانية، التي قفزتْ في صدر الموضوعات داخل أعماق أبٍ (هو سيدنا يعقوب) له من الأولاد عددٌ لا بأس به، ويبذل قصارى جهده حتى لا يدخل الشيطان بينهم؛ لأنه يعلم أن الشيطان للإنسان عدوٌّ مبين.
ولكن الأمور تسير على غير ما يشتهي، ويتغلغل الشيطان في نفوس أولاده الكبار، والأب يحاول إنقاذ ما يُمكن إنقاذه، خصوصًا أنه لمح في ولده الصغير (يوسف) بشائر طيبة وصلاحًا {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4].
فيبذلُ الأبُ نصائحه من واقع علومه الإلهيَّة، ومن واقع خبرته في الحياة ومن فيها، فيمنع ولده من الإفصاح عن رؤياه حتى لإخوته {قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف: 5].
ولم ينتهِ دور الأبِ عند هذا الحدِّ، ولكنه شمل صغيره بعناية ورعاية حرَّكتْ أحقادَ الأبناء الكبار (أخوة يوسف)، كما أنه لا يريد أن يبتعدَ الولد الصغير عن عينيه؛ لأنه لا يأمن كيد الشيطان،

وبالتالي رفض فكرة خروجه مع إخوته إلى خارج البلد؛ لأنه لا يريد أن يَحرِمَ نفسَه من الاستمتاع بقرب ولده منه، ويخشى عليه الأخطار {قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [يوسف: 13].
وعندما نفَّذ أولاده كيدهم، وظنوا أنهم انتهوا من يوسف إلى الأبد، شعر بأبوته الصادقة أن ابنه على قيد الحياة، وأن هناك لقاءً آتيًا بإذن الله، وكلُّ المطلوب هو الصبر {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18].
وصدق الرجلُ في ظنِّه، كما صدق من قبل في تقدير الأمور {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 68].
وبعد ذلك يتكرَّر نفسُ الحدث مع شقيق يوسف، ولكن دون كيد من الإخوة في هذه المرَّة، ويجد الأبُ نفسه يفقد الابن الثاني قبل أن يعرفَ مصير الابن الأول، وكذلك لم يعد إليه أكبر الأولاد؛ لأنه تسبَّب في غياب يوسف، وتورَّط في غيبة الأخ الأصغر.
ومع ذلك يلتزمُ بالصبر الجميل، راجيًا الله - سبحانه - أن يردَّهم جميعًا إليه؛ لأنه - سبحانه - هو العليم الحكيم، ولسنا بصدد القصة؛ ولكن نلتمسُ مشاعر الأبوة في أبٍ يتعرَّض لأنواع الاختبار؛ لعلَّنا نستفيد من هذه الدروس التي جعلت الرجلَ لا يبتعدُ عن الله لحظةً واحدةً، ولم يفقد الثقة في الله - سبحانه -

ولم يتزعزع إيمانُه بالله درجةً واحدةً إلى الخلف، ومع أنه من كثرة الحزن والبكاء فقَدَ بصرَه كما فَقدَ أولاده من قبل، إلا أنه لا يشكو ما أصابه لأحدٍ إلا الله {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يوسف: 86].
كان هذا هو موقف خير سلف نالَ من العلوم الإلهيَّة قِسطًا وافرًا.
وفي الجانب الآخر نجد خيرَ خلفٍ، إنه الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم (يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم) - عليهم صلوات الله وسلامه.
بكلِّ الأدب والإجلال يمتثل لأمر والده، ويدفن في أعماقه رؤياه حتى وهو يتعرَّض للإلقاء في البئر، ولو أنه قصَّ على إخوته رؤياه في ذلك الموقف، لحدث شيءٌ آخر خيرًا أو شرًّا، ولكنه الالتزام بالنصيحة.
وكان يوسف - عليه السلام - دائمَ الصلة الروحيَّة بالوالدين جميعًا، فكان يذكُرهم بكلِّ خيرٍ كلما جاءتْه المناسبة، ويفتخر بسلامة عقيدته وعقيدة آبائه من قبله، ويعترف دائمًا بفضل الله عليهم جميعًا {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف: 38].
وفي نهاية المطاف يعرف من الله الأسلوب الذي يعالج به أباه من فقْد البصر، فيرسل إليه قميصه، فكيف لو ذهب هو إليه؟ ولكن ولأسباب سهولة المعيشة يفضِّل - عليه السلام - أن يأتي آل يعقوب إليه هو، فقال لأخوته: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} [يوسف: 93].
وتمَّ جمع الشَّمل بفضل حنان الأبوة، الذي كان في مقابله برُّ الابن، هذه العلاقة التي لم يتمكَّن الإخوة من قطعها، ولم تؤثِّر فيها السنوات الطوال {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111].
وبرُّ الوالدين دائمًا مجال الثناء من الله - سبحانه وتعالى - فلقد كان من مميزات سيدنا عيسى - عليه السلام - أنه كان بارًّا بوالدته، وكذلك سيدنا يحيى {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} [مريم: 14].
والإنسان الصالح ينشأ من شبابه في طاعة الله، وهو ينتقل في مراحل العمر، ويتدرَّج في الحياة، من طفولةٍ بريئةٍ لا يحمل من هموم الدنيا شيئًا، وكل ما يريده فمن الوالدين، إلى شباب متحفِّز يرنو إلى ما حوله بطموح متوهج، إلى رجولة يبدأ فيها حمل مسؤولياته ويتدرج {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15].
فقد وصل هذا الابن إلى مستوى المسؤولية وتحملها، وعرف عن تجرِبةٍ المشاقَّ التي تحمَّلها والداه من قبل، فيدعو الله بالتوفيق في الشكر، وبالتالي دوام النعم، ويسأل الله أن يوفقه لصالح الأعمال، وكذلك أن يصلح له في ذريته من بعده.
إنه مثال يُحتذى به، وقدوة صالحة يقتدي به من أراد النجاة، ونموذج مثالي في حال صغره وبعد كبره {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف: 16].
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم لقاك يا مجيب الدعوات.
{لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 61].
وماذا بعد؟
وبعد أن ضرب الله لنا من الأمثلة التي تثبِّت القلب، وتقوِّي الإيمان، وشرح لنا كيف كان السلف الصالح، وما أعدَّه - سبحانه - لهم من حسن الثواب،

وأيضًا بيَّن لنا جانبًا من أبناء السوء، وما توعَّدهم به - سبحانه - من عقاب أليمٍ - شرع لنا - سبحانه - الأسلوب الأمثل الذي يجب أن نكون عليه، فقال - تعالى -: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23].
إذًا هذا الأمر الذي قضى به ربُّ العالمين لم يأتِ لنا فجأةً، وهذا الربط بين عبادة الله والإحسان بالوالدين لم يكن من فراغ، وإذا رجعنا قليلاً إلى الآيات التي سبقتْ هذه الآيةَ نجد أنَّ الله بيَّن لنا الطريق الذي يهدي إلى الصراط المستقيم،

وهو السعي المستمر في الاتجاه الصحيح، مع الإيمان بالله، كما حذَّرنا من أن تكون الدنيا همَّنا وسعينا، فإذا رجعنا قليلاً، نجد قوله - تعالى -: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 18]، أما الإنسان الذي عرف دار البقاء وعمل لها {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19].
والله - سبحانه - يمدُّ هؤلاء وهؤلاء من عطائه، ولكن ربحَ من كان عطاؤه في دار الخلود، وخاب وخسر من نال العطايا كلَّها في دار الفناء.
وبعد هذا التوضيح كان الأمر الإلهي بعبادة الله وحده والإحسان بالوالدين.

--------
للفايدة


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التوقيع

اذكروني بدعوه رحمني ورحمكم الله
سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم



أخر مواضيعي
الفقير الي ربه غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس