(تَبرِيرُ كَرَاهَةِ النَّقْد)
عندما نكره النقد لا نعترف بذلك ولن، ولكننا سوف نبحث عن سبب ندعي أنه هو سبب رفضنا له.
وكذلك النصيحة، فعندنا نرفضها، لن نصرح بأننا نرفض النصيحة، ولكننا سندعي أن أسلوبها لم يكن حسناً.
فإذا لم نجد سبباً يمكن أن نخادع به أنفسنا والآخرين لرفض النقد والنصيحة، قفزنا إلى محاولة إسقاط القائل، بأنه ليس أهلاً للنقد ولا للنصيحة.
وننسى أنه لا علاقة بين قبول الحق وقائله!
وننسى أن بعض الناس يسقط من يحاول إسقاطهم، فهم أقوى من كل محاولات الإسقاط الجائرة.
والأهم: ننسى أن هذه الخدعة لم تعد خدعة أصلاً منذ زمن طويل؛ منذ أن قال نبي الله صالح عليه السلام لقومه المعاندين: (وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ).
(عَدَمُ الجَزْمِ في الظَّنيَّاتِ هو دليلُ العِلْمِ والتَّوَاضُع)
بعض الناس يظن أن الجزم في القول وادعاء اليقين في الآراء دائماً هو دليل العلم والرسوخ فيه، أو أنه هو دليل الثقة بالنفس وقوة الشخصية، ولا يعلمون أن الترجيح الظني، والتعبير عن ظنيته بصدق ووضوح وتواضع، غالباً هو دليل العلم والرسوخ فيه!
لأن اليقينيات قليلة بالنسبة للظنيات؛ كما كانت الأصول أقل من الفروع.
ولذلك يتكرر من أهل الرسوخ في العلم التعبير عن ظنونهم في هذه الفروع الظنية! بل الراسخون في العلم ما أكثر ما يتوقفون ويقولون: (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا).
كما أن هذا التعبير الواضح بعدم الجزم وبادعاء الوثوقية دليل الثقة الحقيقية في النفس؛ لأن صاحبه لا يشعر بأنه محتاج لإكمال نقصه بادعاء اليقين فيما لا يبلغ اليقين، ولا يخشى من اتهامه بالجهل إن صرح بعدم ثقته من رأيه وترجيحه.
(بماذا يُعْرَفُ العَالِـم)؟
يجب أن نعرف العالم، لنعرف ما هو العلم! فلا يُعرف العالم بسنه، ولا بوقار شيبته، ولا يعرف بشيوخه ولا بتلامذته، فكم تتلمذ على الأئمة وكم نجب منهم، وكم فاق تلميذ شيخه وتتلمذ الشيخ عليه.
ولا يعرف العالم بمحفوظه، فأحداث الأسنان يحفظون.
ولا يعرف بمجرد أن له مؤلفات، فنسخ وتكرار العلم ليس علماً.
وإنما يعرف العالم بـ(ماذا أضاف للعلم) وبـ(ماذا حرَّر) وما هي تقريراته العلمية التي سنُضطر إليها عند البحث والدرس.
(صَندُوقُ المألُوفِ، وغير المألُوف)
بعض الناس يخرج من صندوق المألوف والقول السائد، لكن إلى صندوق آخر، وهو صندوق غير المألوف ومخالفة السائد! في ردة فعل غاضبة على انحباسه في الصندوق الأول وتمرُّداً عليه ومغايظة لمن لازالوا متصندقين فيه!!
والمطلوب هو الخروج من الصندوقين كليهما؛ ليكون بعد خروجه من الصناديق كلها منطلقاً في نظره حراً في تفكيره.
(التسلُّطُ مرفوضٌ من كلِّ الاتجاهات)
عندما يمارس كهان الأديان تسلطهم باسم الرب، يقصيهم الناس مع ربهم.
وسيتحمل أصحاب الكهنوت تبعة هذه النتيجة القاسية عليهم في الدنيا والآخرة..
وعندما يمارس علماء الدين تسلطهم باسم الدين، يقصيهم الناس مع الدين.
وعندما يمارس الليبراليون التسلط على خصومهم باسم الحرية يقصيهم الناس مع حريتهم.
أبت فطرة الناس إلا أن ترفض التسلط والعبودية، إلا تسلط المحبوب، وعبودية المحبة والاختيار.
(لَـمْ يَنصُرُوا الحقَّ، ولَـمْ يَخذلُوا البَاطِل)!
يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال عمن اعتزل القتال معه ومع أهل الشام: (أولئك قوم لم ينصروا الحق، ولم يخذلوا الباطل).
لم أجد أقوى من هذا التعبير في بيان خطأ من اتضح لديه الحق، وظن أنه باعتزاله وصمته غير مخطئ ولا ملوم؛ لأنه في الحقيقة مخطئ من جهتين:
- لم ينصر الحق، ونصرته واجبة لمن عرفه.
- ولم يخذل الباطل، وخذلان الباطل واجب آخر.
(الغُلُوُّ في الحقِّ)
حتى الحق قد يغلو فيه صاحبه، فيجعل الناس يبغضونه.
فالحق الذي يتعصب له صاحبه، فوق ما يستحق، كأن يكون ظنياً فيجعله يقينياً، أو إلى حد إكراه الناس عليه (كإكراه الكفار على الإسلام)، أو ظلمهم لأنهم أهل الباطل (كقتل من لا يحارب من نساء وأطفال الكفارالمحاربين) = يصبح هذا الحق أبغض إليهم من الباطل الذي لا يتعصب له صاحبه، وتصبح عداوتهم لأهل الحق الغلاة فيه أكثر حضوراً من عداوتهم لأهل الباطل غير المتعصبين له!
العَقْلُ ومَكَــانتـه في الإسلام
(أصلبُ جدارٍ صَدَّ عن سماع دعوة الأنبياء)
منع العقل من التفكير ومحاربة استقلاله عن التبعية لغيره هو أصلب جدار كان قد صد عن سماع دعوة الأنبياء، فمن أراد منك أن تسلم عقلك له، فهو أبو جهل، ولو كان يدعي أنه أبو العلم. ومن ادعى أن الحجج العقلية كانت هي سبب رفض دعوة الأنبياء، فقد أساء أول ما أساء إلى دعوة الأنبياء، ثم إنه قد ظلم العقل. ولا أدري كيف يريدنا أن نعقل عنه فكرة، من يحذرنا من عقولنا؟!
(مَتَى تَصحُّ المطالبةُ بالتَّسلِيم)؟
المطالبة بالتسليم حقٌّ في محلِّها، ولا تكون حقاً إلا: فيما كان لا جواب له إلا التسليم، وكان صادراً ممن يصح التسليم له.
أما المطالبة بالتسليم فيما لم تظهر حكمته وتتضح مصلحته للعجز عن معرفة الحكمة ورؤية المصلحة فهو مطالبة بالتسليم لعجز من لم يعرف تلكم الحكمة والمصلحة، فهو جزء من تسليم المستعبَدين للكهنوت.
وأما التسليم لمن لا يجوز له التسليم (وهم كل من سوى النبي صلى الله عليه وسلم) فهو العبودية الفكرية نفسها بكل آصارها وأغلالها.
(العَقلُ هو الدَّليلُ على الحقِّ)
العقل دون تعطيله بالتقليد هو الدليل الوحيد على الحق قبل تصديق الوحي، فهو الذي يعرف به العاقل صحة النبوة، وبه يدرك الفرق بين النبي الصادق والمتنبئ الكاذب.
فيجب أن ندرك تمام الإدراك أنه حتى الكافر لم يكفر إلا بسبب عدم تحكيم عقله، يقول تعالى في ذلك: (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ)، فيبين الله تعالى بهذا السؤال الاستنكاري أنهم لم تأمرهم عقولهم بالكفر، ولو حكَّموها لما كفروا.
وميزة هذا السؤال الاستنكاري أنه يبين استحالة أن يتوهم عاقل بأنَّ العقل يأمر بالكفر، وأنَّ العقل بعيد كل البعد عن هذا. كما أن في تسمية العقول بالأحلام، والذي هو ضد الجهل، ما يدل على سياق التعظيم هذا.
يعظم الله تعالى العقل هذا التعظيم، ويجعله الدليل على صحة النبوات وإدراك دلائلها ومعجزاتها، ثم فينا من يجعله عدواً للنقل وضداً للوحي؟!
والأهم: أن العقل لا يعطله شيء مثل التقليد، ومثل منعه من التفكير بحجة تعظيم المعظمين.
(احترامُ عُقُولِ النَّاس)
عندما نأمر الناس باحترام العلماء، فعلينا أن نطلب من العالم قبل ذلك أن يحترم عقول الناس، فلا يطالبهم بإلغاء عقولهم، بحجة أنهم غير متخصصين.
وبين ممارسة الكهنوت وواجب احترام أهل العلم شعرة: هي أن الكهنوت يقوم على الانقياد دون قناعة، بحجة التسليم للعالم.
وأما احترام العالم فيقوم على قدرة العالم على الإقناع بصحة قوله أو الإقناع بعجز المعترض عن فهمه.
وبغير ذلك سيمارس العالم الكهنوت بحجة الاحترام، أو سيسقط الكهنوت والاحترام معاً.
(الشيخُ الذي لا يَسمَحُ بالسُّؤَال)
يجب عليك أن تعلم أن الشيخ الذي لا يسمح لك بسؤال الاستشكال لا يريدك أن تكون عالماً أبداً، بل يريدك أن تكون نسخة منه مقلداً. وأن ضيق العطن بسؤال الاستيضاح ودفع الإشكال هو ضيق في العلم وعجز فيه.
وهذا عكس ما يتصوره بعض طلبة العلم: حيث يتأدبون مع من لا يسمح لهم بالسؤال وتوضيح الاستشكال، ويستقر في نفوسهم أنه هو العالم، وينزلون من سمح لهم بسؤال الاستشكال عن منزلته من العلم!
(تَعظيمُ النُّصُوصِ في فهمها، وليس في التمسك بظاهرها)
التمسك بظواهر النصوص ليس هو وجه التعظيم لها، وإنما التفقه في النصوص هو التعظيم.
فتمسك الخوارج بظواهر نصوص الوعيد مذموم، وأما تأويل السلف لها على خلاف ظاهرها فقد كان هو الممدوح.
والظاهرية عندما رفضوا تعليل الأحكام وتمسكوا بظواهر النصوص لم يكونوا أولى بالنصوص ولا بالتمدح بالتمسك بها من السلف، عندما أناطوا الأحكام بعللها، فيتبعون علل الإحكام وجوداً وعدماً وإن خالفوا ظواهر النصوص.
فهم بمخالفتهم هذه لظاهر النص، قد وافقوا مراد النص.
التَّجْـدِيـدُ الدِّينيُّ
(الفَرقُ بينَ التَّجديدِ والتَّبديل)
إنَّ الرسام إذا أراد أن يجدد لوحته القديمة فسوف يستخدم ألوانه وريشته نفسها، أما إذا غيّرَ الريشة والألوان فهذا يعني أنه يريد أن يبدل اللوحة، لا أن يجددها.
وهو حر في اتخاذ أي من القرارين، لكنه ليس حراً في أن يسمي التبديل تجديداً.
وكذلك الشأن في علومنا الإسلامية: لا يمكن أن نجددها بآلة من غير جنس الآلات التي صنعتها، بل لا بد لتجديدها من استعمال جنس آلاتها التي أبدعتها؛ إلا إذا كنا لا نريد تجديد علومنا، وإنما نريد تبديلها.
(التَّجديدُ في كلِّ لحظة)!
رأى العلماء قديماً أن حاجة الأمة إلى تجديد الدين لا ينقضها شيء، ولا ضعف حديث المجدد للدين كل مائة عام؛ لأن التجديد ليس لازماً للتخليص من الخطأ فقط، بل لأنه لازم لصلاحية الإسلام مع متغيرات الزمان والمكان.
ولئن اكتفوا من التجديد أن يحول عليه من القرن للقرن، فإننا في ظل المتغيرات القوية السريعة لن نكتفي من التجديد إلا أن يرافقنا كل لحظة.
(تعريفُ التِّجديدِ الدِّينيِّ)
التجديد الديني هو: متابعة الاجتهاد المنضبط بمنهجه الذي يراعي القواعد العلمية الصحيحة للاستنباط من مصادر الشريعة وفق متغّيرات الحال في كل زمان ومكان.
وهو من خصائص الإسلام الثابتة، ومن طبيعته التي لا تتغير. فهو دين متجدد، مع ثبات الأصول.
فالجمود هو التبديل الحقيقي للدين، وليس التجديد، كما قد يتوهمه بعض الناس.
(خُطُورةُ فشلِ الخطابِ الإسلاميِّ)
عندما يفشل الخطاب الإسلامي في إقناع غالبية مسلمة فهذا يدل على عجز وخلل فيه ؛ فإما أنه نسب للإسلام ما ليس منه خطأ، وإما أن أسلوبه في الإقناع كان خطأ ؛ لأن الرأي إذا صحت نسبته إلى الإسلام حقاً فلا بد أن يكون مقنعاً للمسلمين.
وعندما يفشل سيكون له أثره السلبي زيادة على هذا الفشل: فقد يسوء ظن الناس بالشرعيين، أو يسوء ظن الشرعيين في الناس، مما يخندق المجتمع ويفرق الصف، هذا إن لم يشكك بعض جهلة المسلمين في الإسلام
---------------------
من أراد التوسع وقراءة روائع أخرى يمكنه تحميل الكتاب كاملاً
روائع من كتابات الشيخ العلامة حاتم بن عارف العوني / للفايدة