جنـــــــــاح الـــــــذل
الحمد لله وبعد،،
كثيرة هي العبارات التي تمر بالمرء في حياته قراءةً أو سماعاً، بعضها يفقده الذهن ويتشرد من الذاكرة فور مروره عليها ..
بعض الكلمات كأنها زائر دخل بالخطأ واعتذر أنه يريد السلام ويمضي فقط..
وبعض الكلمات تحفر حروفها في الذهن .. بل لربما مضى الزمن وقد ترعرعت حولها ذرية من العبارات المتولدة عنها..
هل للعبارات تاريخ صلاحية؟ أم أن أذهاننا كولونيالية، تؤوي وتقمع تطرد، دون قوانين واضحة؟
وثمة كلمة في كتاب الله مرت بي ولأول وهلة سمعتها وهي تحمل سؤالاً في نفسها ..
وهي استعارة قرآنية خلبت اهتمامي .. ومكثت أفكر فيها زمناً:
ما مراد الله سبحانه بهذا التركيب؟
وماذا أراد الله أن يوحي من المعاني من جزء العبارة الأول لجزء العبارة الثاني؟
هذه الاستعارة القرآنية هي التي اخترت أن تكون عنوان هذه الرسالة التي أكتبها إليك .. وهي قول الله (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ)[الإسراء:24].
نحن نعرف أن (الجناح) جزء حسي في الطيور ركّبه الله فيها تخفق به وتتنقل.. ونرفع رؤوسنا في ميادين السماء فنرى هذه الطيور تميل بأجنحتها.. فتنشرها وتصفق بها.. بل هذه الصورة ذاتها ذكرها القرآن في موضع آخر (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ)[الملك:19]
فوصف الله في هذه الآية أجنحة الطير وهي فوقنا في السماء إذ تبسط أجنحتها تارة فتصفّها.. وإذا تضرب بأجنحتها جنوبها تارةً أخرى فتقبضها..
ويدلك على عظمة هذا المشهد من مشاهد حركة أجنحة الطير أن الله ذكره أيضاً في موضع آخر من القرآن فقال الله (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ)[النور:41]
وأشار الله لهذا المشهد بصورة مجملة في موضع آخر فقال سبحانه (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ)[النحل:79].
حسناً .. هذا مشهد من مشاهد جناح الطير في كتاب الله.. وهو لا يخفى على القارئ.. لكن السؤال الذي كان يقرع ذهني بصورة مستمرة
هو السؤال التالي:
لماذا أضاف الله هذا (الجناح) الحسي المعروف، إلى (الذل) الذي هو سلوك أخلاقي وجزء منه شعور معنوي؟
ما مغزى هذه الاستعارة؟ وماذا يريد الله سبحانه بهذا التركيب اللغوي؟
ولنجعل التساؤل أكثر تحديداً: ما هي الدلالة المتطلب إيحاؤها من لفظ الجناح بما يخدم مفهوم الذل؟
هذا السؤال تأملته كثيراً .. ومازالت تتكشّف لي فيه دلالات فسيحة الأرجاء ..
ثم لما تتبعت تأملات البلاغيين والمفسرين في هذه الاستعارة القرآنية استحوذت علي الدهشة من تفاوتهم في استكشاف العلاقة بين الجناح والذل.. ورأيتهم داروا حول أربع علاقات..
ومن أول من رأيته من أهل العلم طرح تحليلاً لمكونات هذه الاستعارة وتفسير العلاقة بين الجناح والذل هو العلامة القفال الشاشي الكبير (ت365هـ)،
والقفال الشاشي رحمه الله طرح وجهين للعلاقة بين الجناح والذل:
فأما الوجه الأول فهو أنه لما كان الطائر ينشر جناحه ويرفعه إذا أراد التحليق والصعود، ويخفض جناحه إذا أراد الهبوط والنزول، فناسب أن يصوّر التذلل للوالدين بأنه كأنه خفض جناح من الطأطأة والخضوع.
وأما الوجه الثاني فجوهره أن الطائر يحنو على فراخه فيلفّهم بجناحه ويسبله عليهم تعطّفاً وشفقة، فناسب أن يصوّر التذلل للوالدين والرحمة بهم كأنه خفض جناح الطائر على فراخه.
كما يقول القفال:
(في تقريره وجهان: الأول: أن الطائر إذا أراد ضم فرخه إليه للتربية خفض له جناحه، ولهذا السبب صار خفض الجناح كناية عن حسن التربية، فكأنه قال للولد اكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك بك حال صغرك.
والثاني: أن الطائر إذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحه، وإذا أراد ترك الطيران وترك الارتفاع خفض جناحه؛ فصار خفض الجناح كناية عن فعل التواضع من هذا الوجه)[تفسير الرازي (20/192)، تفسير أبي حيان (6/25)، تفسير ابن عادل (12/259)].
هذان هما الوجهان اللذان طرحهما القفّال الشاشي رحمه الله في تفسيره، إلا أن تفسيره هذا مفقود، ولم يقع بأيدينا، ردّه الله على أمة محمد، ونحن ننقل عنه هذه المعلومة السابقة بالواسطة، من خلال ما يقتبسه المفسرون عنه.
وكثيراً ما يمر بالقارئ في كتب التفسير قولهم "قال القفال"، وهذا الذي يرد في كتب التفسير هو القفال الشاشي الكبير، وأما إذا قيل "قال القفال" في كتب الفقه الشافعي الوسيط كالنهاية والوسيط والمهذب ونحوها فالمقصود به القفال المروزي الصغير (ت417هـ)، وهو نجم الطريقة الخراسانية في الفقه الشافعي، وكلاهما شافعيان، وكلاهما يكنى أبو بكر، ومن هنا ينشأ الخلط بينهما، ونبّه على هذا الفرق بين القفّالَيْن أبو زكريا النووي رحمه الله [تهذيب الأسماء للنووي(442)].
وقد رأيت أطروحات أكاديمية في جمع تفسير القفال الشاشي الكبير من خلال النقولات المتناثرة عنه في كتب التفسير.
وفي القرن السابع رأيت الأديب ضياء الدين ابن الأثير (ت637هـ) يطرح تحليلاً ثالثاً للعلاقة بين الجناح والذل، ففي كتابه "المثل السائر"
اعتبر أن الطائر إذا أدركه الإعياء والوهن خفض جناحه، فصوّر التذلل للوالدين بهذه الصورة، كما يقول ابن الأثير:
(فإن الجناح للذل مناسب، وذاك أن الطائر إذا وهن أو تعب بسط جناحه، وخفضه وألقى نفسه على الأرض)[المثل السائر:2/153].
وبصراحة فإن هذا الكتاب لابن الأثير ثري بتحليلات تطبيقية بلغة في غاية العذوبة لكيفية صناعة الجمال البياني.
وأما العالم المتفنن الشهاب الخفاجي (ت1069هـ) فقد أشار إلى وجه رابع، وهو أنه لما كان الطائر يحلق ويطير شامخاً، فإذا فاجأه الجارح والبازي شلّه الذعر وأعياه الطيران ولصق بالأرض وخفض جناحيه كالمطرق الذليل،
فناسب أن يصوّر التذلل للوالدين كأنه خفض جناح الطائر المستسلم المطرق، كما يقول الشهاب:
(وأيضاً: هو إذا رأى جارحاً يخافه لصق بالأرض، وألصق جناحيه، وهي غاية خوفه وتذلله)[حاشية الشهاب:6/24]
هذه أربع استكشافات لمغزى الاستعارة القرآنية (جناح الذل).. ذكر اثنتين منها القفال الشاشي وذكر الأخريين الضياء ابن الأثير والشهاب الخفاجي ..وثلاثتهم في علوم العربية بمنزلة الغُرر والحجول.
وحينما اطلعت أول مرة على هذه التحليلات الأربع لوجه الصلة بين الجناح والذل في هذه الاستعارة القرآنية مكثت زمناً تداهمني المقارنة بينها كلما ارتطمت بموقف تسح فيه الكهولة عبراتها على موقف عقوق..
حينما أرى شاباً عليه سيماء الاستقامة لكنه يجادل والده بمنطق الند ويستظهر عليه الحجة تحاصرني مجدداً هذه الوجوه الأربعة في هذه الاستعارة القرآنية ..
حتى ربما خرجت من عالم الموقف المحيط بي وسرحت في عالم التأملات..
وأبقى أردد في ذهني:
هل هذا خفض جناح الذل كما يخفض الطير جناحه للهبوط؟
هل هذا خفض جناح الذل كما يسبل الطير جناحه لفراخه حنواً عليهم؟
أهذا خفض الجناح كما يخفض الطير جناحه من الوهن؟
هل هذا الإطراق الذي يريده الله أمام الوالدين كما يطرق الطير استسلاماً أمام البازي؟
وهكذا أعيد قراءة المشهد على ضوء كل التحليلات البلاغية التي طالعتها لآية (واخفض لهما جناح الذل)..
هل كنت أتفطّر من الفارق بين البر الشاهق في الآية وبين منحدرات العقوق في حياتنا الاجتماعية؟
أم تراني كنت أقارن بين هذه التحليلات أبحث عن الراجح منها على ضوء الواقع؟
أم تراني كنت أبحث عن أكبر قدر من التحليلات البيانية تجوب أقصى ما يمكن من الجغرافيا الدلالية لهذه الاستعارة التي خلبت اهتمامي؟
-------------
للفايدة