ثقافة الحلال في البيت المسلم
أكاد أجزم أن المسلم لا يرتاب بمطعمه لأنه قد اطمأن إلى سلامته، ولا يأبه بملبسه لأنه في مأمن من الحرام، والحق
أن هذه الأمور في غاية الأهمية لأنها تشكل الهيكل الجسدي الذي يتعبد الله تعالى ولا يقبل الله إلا طيباً، بل لا أبالغ إن
قلت إنها تشكل العقل لدى المسلم فالقلب والعقل معينان يتغذيان بما يقوم عليه الجسد، فإن كان حلالاً كان العقل نقياً
وإلا فإن القلب يضطرب من لجة الحرام، وإذا اضطرب القلب اضطرب معه كل شيء .
في غمرة السباق المحموم من أجل الوجود الاقتصادي غفل الكثير منا عن امتدادات الحرام في المطعم والملبس .
ولقد استقر في ثقافة البيت المسلم أن حِل المطعم هو ما كان منه بخصوص اللحم ونوعه وطريقة ذبحه وحسب، وإن
كان إسلاميا أو لا، فنكتفي بمراقبة الختم الذي بات شعاراً (ذبح على الطريقة الإسلامية) ويوم أن كنا نذبح لنأكل
وننسج لنلبس، لم يتسرب إلى قلوبنا ريب من تلك الأمور، ولكنا وقد بتنا نلبس ما يُصنع لنا ونأكل ما يُطبخ لنا، صار
لزاماً علينا أن نتدبر في مطعمنا وملبسنا لأنا أمة تتعبد الله بطيب كسبها من الحلال وتزهد بالحرام ولا تقربه وإن كان
متاحاً لأنه يقطع صلة العبد بربه وفي الحديث ( . .الرجُلَ يُطِيلُ السفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُد يَدَيْهِ إلى السمَاءِ يا رَب يا رَب
وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَأَنى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ) (صحيح مسلم) .
صور للحرام
وقد وهنت عناية المسلم برقابة الحلال على مطعمه في الوقت الذي تطورت فيه دائرة المنتج من الحرام ليشمل الملبس
وممنوعات بسبب التخزين وسوء المعالجة وآن للمسلم أن يعرف أن الحرام قد يصيب مطعمه وملبسه من خلال
أمور كثيرة أبرزها:
- الحرام القطعي لذاته: كالأطعمة التي حرمها الشرع كالخنزير والخمر وغيره قال تعالى (إِنمَا حَرمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدمَ
وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِل بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُر غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِن اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة:173)
والمسلم في مأمن من تلك المحرمات إلا ما يتم عن طريق الحيلة بوضع دهن الخنزير في بعض المنتجات والكتابة
بأنه (دهن حيواني) وهو حيواني لكنه دهن محرم لأنه من شحم الخنزير .
- حرام لعارض . وذلك في أي مطعم لحقه الأذى فصار ضاراً كسوء التعليب الذي يجعل المطعم فاسداً أحياناً،
وإذا فسد صار محرماً،
فعلى سبيل المثال هناك أجبان حلال، لكن تتم معالجتها بمغلفات مكونة من دهن الخنزير
أو دمه فإذا أزيلت تلك العوارض عاد المنتج حلالاً .
- حرام بالمآل . فمن المطاعم والأغذية ما يكون حلال الأصل لكنه بمآله قد يتحول إلى ضار ولأسباب مختلفة
واليك بعض الأمثلة:
* الأطعمة التي تخزن بمواد حافظة تساعد على الأمراض المسرطنة فالعلة ليست في المطعم وإنما بما يفضي
إليه الطعام بسبب المواد التي تفتك بالإنسان مستقبلاً . . من ذلك الإضافات التي تضاف إلى بعض الأطعمة
فيما يسمى بالوجبات السريعة،
فقد ثبت أن بعضها تضاف إليه مواد حافظة تمنع من تأكسده أو تعفنه لفترة
طويلة ليتم استخدامه لأطول فترة، وبالتالي عدم تحلله في الجسم مما يسبب أمراضاً خطرة .
* أطعمة يتم تصنيعها- وهذا في الأغلب فيما هو مستورد- بمكائن تصنع أطعمة محرمة، فمثلاً هناك مكائن تعنى
بتقطيع لحم الخنزير أو تعليبه يتم استخدامها لتقطيع أو تعليب اللحوم المعدة للحلال، ما يسهم في اختلاط الدماء
واللحم في نسب منها وهذا ينطبق على الجيلاتين، فهو منتج يستخلص إما من الخنزير وإما من البقر، أما
الخنزير فحرمته معلومة لكن المشكلة فيما يستخلص من البقر فهل هو من بقر مذبوح شرعاً؟ أم تم استخلاصه
من بقايا الحيوانات والجلود والميتة؟ وإذا سلّمنا جدلاً بأن هذا بقري مشروع وحلال، فهل يُصنع في مصانع
تعنى بتعليب الجيلاتين البقري أو مصانع تصنع البقري والخنزير معاً، مما يؤدي إلى اختلاط المواد في نسبة
من المنتج؟
كل هذه الأمور وغيرها كثير تستلزم من المسلم الحريص أن يتثبت ويتدبر فيما يقتات عليه من
طعام أو شراب .
* الجهل بمكونات المنتج: فمثلاً في العصائر يتم شراء المنكهات والمطيبات من الخارج التي يتم تصنيعها في
الأغلب بإضافة الكحول إليها سواء أثناء عملية استخلاصه أو مع نهاية التصنيع، وقد تدخل مشتقات الخنزير
في تصنيعها عن طريق الأحماض الدهنية أو الجيلاتين ثم يتم تداول تصنيع العصائر بتلك النكهات في البلاد
العربية على أنها منتج محلي .
وما هو أخطر أن بعض الشركات وبعد استخلاص بعض العصائر تتم تصفيتها
بمصاف (فلاتر) مصنوعة من جيلاتين الخنزير .
ثقافة غائبة
وأثناء زيارتي لأوروبا جرّني البحث عن الحلال إلى إحدى الشركات الألمانية التي تعنى برقابة الأطعمة وغيرها
لا من حيث مطابقتها لمواصفات الأكل وحسب، بل من حيث مطابقتها لمعايير الجودة والسلامة وفق المقاييس
الشرعية من حيث التسويق والنقاء والطهارة والنظافة وكل ما ذكرته من معلومات مستمد منها .
ولقد دهشت كثيراً حينما هممت بشراء حذاء فابتدرني البائع قائلا إنه من خنزير، كما أن ثوباً كان مصنوعاً من
جلد ممنوع وكل هذه الماركات تصنع لنا ونتداولها من غير دراية بماهية الصنع وأصله، وزاد في دهشتي بل
وفجيعتي حينما اقتربت من حلوى (شوكلاتة) لأشتريها للأطفال فقال البائع إنها بنكهة الخمر أو منه .
ولا أخفي استغرابي من تسرب الحرام إلى الكثير من الأطعمة بطرائق نغفلها ولا نأبه لها ومن وجوه متعددة،
وثقافة البيت المسلم في هذا الباب تكاد تنعدم .
إننا نثق كل الثقة بالجهات التي تعنى بذلك في بلادنا العربية غير أننا نذكر بأن ثقافة الحلال لم تعد مقصورة
على جملة من الأطعمة بل تعدتها إلى الكثير من الأطعمة المتداولة من غير اللحوم كالحلويات والعصائر والألبان
وما يشتق منها، كما أن الحرام ربما يأتي من أبواب أخرى وهو ما يعني أن على المسلم التحري عن المنتجات
وتركيباتها من خلال المعرفة الكاملة لمكونات المنتج وما يعنيه كل اسم لتتشكل لديه ثقافة كاملة تصحح سير
العلاقة بين العبد وربه .
وهو أمر إن لم يكن لأجل العفة بالحلال فلأجل استبراء القلب من الشبهات فعن
النعْمَانَ بن بَشِيرٍ قال: سمعت رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: (الْحَلالُ بَينٌ وَالْحَرَامُ بَينٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبهَاتٌ
لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ من الناس فَمَنْ اتقى الْمُشَبهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ في الشبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ
الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ ألا وَإِن لِكُل مَلِكٍ حِمًى ألا إِن حِمَى اللهِ في أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ ألا وَإِن في الْجَسَدِ مُضْغَةً
إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلهُ وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلهُ ألا وَهِيَ الْقَلْبُ) (صحيح البخاري) .
أثر الحلال في الجسد
إن اهتمام أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بقضايا الحلال وخصوصاً في المطعم والملبس يسجل منحى مهماً
في تشخيص أثر الحلال في الجسد، فعن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت كان لِأَبِي بَكْرٍ غُلامٌ يُخْرِجُ له الْخَرَاجَ وكان
أبو بَكْرٍ يَأْكُلُ من خَرَاجِهِ فَجَاءَ يَوْماً بِشَيْءٍ فَأَكَلَ منه أبو بَكْرٍ فقال له الْغُلامُ تدري ما هذا فقال أبو بَكْرٍ وما هو
قال كنت تَكَهنْتُ لِإِنْسَانٍ في الْجَاهِلِيةِ وما أُحْسِنُ الْكِهَانَةَ إلا أَني خَدَعْتُهُ فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ فَهَذَا الذي أَكَلْتَ
منه فَأَدْخَلَ أبو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُل شَيْءٍ في بَطْنِهِ) (صحيح البخاري) وربما يكون الاستغفار هو الطريقة المثلى
عند تناول الحرام من المطعم إذا لم يكن المأكول من حقوق الآخرين لكن الصديق، رضي الله عنه، أدرك أبعاد
التأثير السلبي للحرام في طبيعة الجسم من حيث العلاقة مع الله تعالى، بل أن من علماء الأمة من جعل الحرام
من المطعم سبباً من أسباب حجب العلم أو تأخره عن طالبيه، لذلك كانوا يعنون بمطعمهم بل وبولدانهم قبل أن
يولدوا، ويذكر أن والد الإمام الجويني، وهو عالم من علماء الأمة اتفق وزوجته على تناول الحلال والابتعاد
عن أي مشبوه،
وحصل أن انشغلت الأم عن ولدها الذي بكى من شدة الجوع وكانت في البيت جارية مرضعة
للجيران فأرضعته مصة أو مصتين ودخل والده فأنكر ذلك، وقال هذه الجارية ليست ملكاً لنا وليس لها أن
تتصرف في لبنها وأصحابها لم يأذنوا في ذلك وقلب ابنه وفوعه حتى لم يدع في بطنه شيئاً إلا أخرجه، ولما
كبر الجويني وصار إماماً للحرمين تلجلج في الجواب عن سؤال فكان إلى جوار والده الذي قال له لعلها من
آثار تلك المصة من اللبن . (طبقات الشافعية الكبرى) .
فانظر إلى هذا الرجل الغريب الذي يرى أن رضعة واحدة قد تكون من الأسباب المعوقة لطلب العلم أو استقراره
وحفظه، ولذلك فإنه من الحري بنا أن نتأمل ما نأكله من مطعم أو نلبسه من ملبس، فله بالغ الأثر في
استقامة عقولنا وطهارة قلوبنا .
نسأل الله تعالى أن يبصرنا بمعالم ديننا ويعلمنا الحلال ويرزقنا اتباعه ويجنبنا الحرام ويرزقنا اجتنابه .
من جريدة الخليج - الامارات
د . عمر شاكر الكبيسي
----------------
للفايدة