حكيــــم قبيلــــــة دوس
الرجل العاقل يفكر في نفسه وما حوله بعمق، إنه يأخذ قراره من رأسه، ولا يأخذ قراره مما تعارف عليه الناس، أو مما زيّنه المبطلون.
قال ابن إسحاق: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يرى من قومه يبذل لهم النصيحة ويدعوهم إلى النجاة مما هُم فيه، وجعلت قريش، حين منعه الله منهم يحذرون الناس، ومن قدم عليهم من العرب حتى لا يؤمن به أحد، لكن الله غالب على أمره.
في كل عصر يوجد منكرون للحق، كارهون للوحي، وهؤلاء جعل الله على قلوبهم الأكنّة، وفي آذانهم الوقْر، وعلى قلوبهم الأقفال، ومن هذا الطراز كان كفار مكة.
إسلام الطفيل
كان الطفيل بن عمرو الدوسي يحدّث أنه قدم مكة ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، فمشى إليه رجال من قريش، وكان الطفيل رجلا شريفا شاعرا لبيبا، فقالوا له يا طفيل إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا، وقد فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر يفرق بين الرجل وأبيه، وبين الرجل وأخيه، وبين الرجل وزوجته! وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمنه ولا تسمعن منه شيئا.
قال فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت ألا أسمع منه شيئا ولا أكلمه حتى حشوت في أذني حين غدوت إلى المسجد كرسُفا (قطنا) فرَقا (أي خوفا) من أن يبلغني شيء من قوله وأنا لا أريد أن أسمعه،
فغدوت إلى المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة، فقمت منه قريبا فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله، فسمعت كلاما حسنا،
فقلت في نفسي: واثكل أمي، والله إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى علي الحسن من القبيح فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول فإن كان الذي يأتي به حسنا قبلته وإن كان قبيحا تركته.
قال: فمكثت حتى انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته فاتبعته حتى إذا دخل بيته دخلت عليه فقلت: يا محمد إن قومك قد قالوا لي كذا وكذا، فوالله ما برحوا يخوفونني أمرك حتى سددت أذني بكرسُف لئلا أسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يسمعني قولك، فسمعته قولا حسنا، فاعرض علي أمرك.
قال: فعرَض عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام وتلا علي القرآن، فلا والله ما سمعت قولا قط أحسن منه، ولا أمرا أعدل منه، قال فأسلمت وشهدت شهادة الحق وقلت: يا نبي الله إني امرؤ مطاع في قومي، وأنا راجع إليهم وداعيهم إلى الإسلام فادع الله أن يجعل لي آية تكون لي عونا عليهم فيما أدعوهم إليه فقال: اللهم اجعل له آية.
قنديل معلق
قال: فخرجت إلى قومي، حتى إذا كنت بثنية تطلعني على الحاضر وقع نور بين عيني مثل المصباح فقلت: اللهم في غير وجهي، إني أخشى أن يظنوا أنها مُثلة وقعت في وجهي لفراقي دينهم، فتحول فوقع في رأس سَوطي، فجعل الحاضرون يتراؤون ذلك النور في سوطي كالقنديل المعلق وأنا أهبط إليهم من الثنيّة، حتى جئتهم فأصبحت فيهم.
فلما نزلت أتاني أبي، وكان شيخا كبيرا فقلت: إليك عني يا أبت فلست منك ولست مني
قال ولِمَ يا بُني؟ قلت: أسلمت وتابعت دين محمد صلى الله عليه وسلم، قال: أي بُني فديني دينك. فقلت: فاذهب فاغتسل وطهر ثيابك، ثم تعال حتى أعلمك ما علمت فذهب فاغتسل وطهر ثيابه ثم جاء فعرضت عليه الإسلام فأسلم.
ثم أتتني صاحبتي (زوجتي) فقلت: إليكِ عني، فلست منك ولستِ مني، قالت: لِمَ بأبي أنت وأمي؟ قلت: قد فرّق بيني وبينك الإسلام وتابعت دين محمد صلى الله عليه وسلم. قالت: فديني دينك، قلت: فاذهبي إلى حمى ذي الشرى وكان ذو الشرى صنما لدوس، وكان الحمى به وشل من ماء فتطهري منه.
ثم دعوت دَوسا إلى الإسلام فأبطأوا عليّ، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فقلت له: يا نبي الله إنه قد غلبني على دوس الرنا فادع الله عليهم ! لكن هيهات، فهو نبي الرحمة، جاء بالرفق واللين، لا العنف والشدة.
فقال عليه السلام: “اللهم اهدِ دَوسا، ارجع إلى قومك فادعهم وارفق بهم” قال: فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الإسلام حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ومضى بدر وأحد والخندق، ثم قدمت على رسول الله بمن أسلم معي من قومي ورسول الله بخيبر، حتى نزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتا من دوس، ثم لحقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فأسهم لنا مع المسلمين.
الشاهد في قصة الطفيل أنه كان ذكيا لم يعِش الغفلة، شجاعا لم يعرف التردد، سريعا في تأدية واجب الإيمان والدعوة إليه، لقد خاصم أهله حتى يؤمنوا، ودعا قومه بكل وسيلة حتى يُسلموا، ولما أعيَته الحيل، ذهب شاكيا إلى رسول الله عليه السلام ضعف الاستجابة، ثم أعاد الكرة عليهم، فلقد عرف وظيفته من أول يوم لأنه أعمل عقله وذكاءه، ففتح الله له القلوب حتى أسلمت قبيلته، وهذا هو الفرق بين اليقظ والنائم الذي أراح عقله،
هذا هو الفرق بين من يجعل نفسه وماله وأهله تبعا لإيمانه وغايته، وبين بارد يعيش على أي لون، بلا وظيفة أو هدف
------------
للفايدة