يــــــوم شــــق الصـــدر
ولد محمد صلى الله عليه وسلم يتيماً حيث فتح عينيه في هذه الدنيا، فلم يجد أباه إلى جانبه يرعاه، وعندما أقبلت السيدة آمنة على صغيرها ترضعه
لم تستطع إرضاعه لأن لبنها جف بعد أيام من الولادة . فدفعت به إلى “ثويبة” جارية عمه أبي لهب، وكانت قد أرضعت قبله عمه حمزة بن عبدالمطلب .
يقول فضيلة الشيخ صفي الرحمن المباركفوري في كتابه: “الرحيق المختوم”، كانت العادة عند الحاضرين من العرب أن يلتمسوا المراضع لأولادهم
ابتعاداً لهم عن أمراض الحواضر، ولتقوي أجسامهم، وتشد أعصابهم، ويتقنوا اللسان العربي في مهدهم، فالتمس عبدالمطلب لرسول الله
صلى الله عليه وسلم المراضع، وكن يقدمن من البادية إلى مكة لالتماس الرضعاء .
ويضيف الدكتور أمين ساعاتي في كتابه “صلى الله عليه وسلم . . رؤية سياسية معاصرة”: “لم تقبل أي من المرضعات محمداً صلى الله عليه وسلم
لأنه كان فقيراً ويتيماً، إلا امرأة تدعي “حليمة”، ورأت من بركته صلى الله عليه وسلم ما قضت منه العجب .
قال ابن إسحاق:
كانت حليمة تحدث: لم تهطل الأمطار في فصل الربيع من هذا العام، وقلت لزوجي إننا لا نملك شيئاً يقيم أودنا، فلننزل مكة، ونحضر طفلاً إلى
مضاربنا، عسى أن نرزق من أبيه شيئاً . ووافق زوجي، وخرجت من بلدي مع زوجي وابن لنا رضيع في نسوة من بني سعد بن بكر،
نلتمس الرضعاء، راكبة على حمار، وشارفة (ناقة مسنة) كانت أذمت بالركب (أي: حبستهم لضعفها وانقطاع سيرها)، لا ننام ليلنا، ما يجد
الصغير في ثديي ما يغنيه، ولا في شارفنا ما يغذيه . فقدمنا مكة، فوالله، ما علمتُ منا امرأة إلا وقد عرض عليها محمد صلى الله عليه وسلم،
فإذا قيل يتيم، تركناه وقلنا: ماذا عسى أن تصنع إلينا أمه؟ إنما نرجو المعروف من أب الولد، فأما أمه فماذا عسى أن تصنع إلينا؟ فوالله،
ما بقي من صواحبي امرأة إلا أخذت رضيعاً غيري، فلما لم أجد غيره، قلت لزوجي الحارث بن عبدالعُزى: والله، إني لأكره أن أرجع من
بين صواحبي ليس معي رضيع فسوف آخذه (فقد عرض النبي محمد صلى الله عليه وسلم على المراضع فلم تقبل إحداهن أن تأخذه)
فقال لي زوجي لا عليك، فما هو إلا أن أخذته، فجئتُ به رحلي، فأقبل على ثدييَ بما شاء من لبن، وشرب أخوه حتى روي، ولما أقبل
زوجي على الشارف وجدها حافلة (أي: ممتلئة باللبن) فحلبها وسقاني وشرب، فبتنا بخير ليلة”، وعلى طريق العودة كانت أتان حليمة
الضعيفة في مقدمة الركب نشطة . ولم تخف حليمة هذه المعجزات على زوجها فقال لها: يا حليمة والله إني لأراك أخذت نسمة مباركة” .
ويضيف د . أحمس حسن صبحى في كتابه “المبعوثون إلى الأرض - قصص الأنبياء عليهم السلام”، و”عادت المراضع من مكة إلى
ديارهن، وكل منهن بحوزتها الرضيع الذي قسمه الله لها، وكانت الشيماء بنت حليمة في استقبال أهلها، وما إن رأت أخاها الجديد حتى
أحست بأنها تعرفه منذ زمن بعيد، ووقع حبه في قلبها” .
“ومرت سنتان، شب خلالهما صلى الله عليه وسلم لا يشبه غيره من الغلمان، ففطمته حليمة، لتعود به إلى أمه السيدة آمنة بمكة .
ودخلت حليمة على السيدة آمنة ومعها ابنها محمد صلى الله عليه وسلم فكاد قلب آمنة يطير من السرور، فضمته إلى صدرها، وراحت
تملأ عينيها من نور طلعته البهية، ثم سمعت حليمة تقول لها على استحياء: “لو تركت بُني عندي حتى يغلظ، فإني أخشى عليه وباء مكة” .
وكادت حليمة تطير فرحاً حين أذنت لها آمنة برده معها . واستمر مع حليمة حتى أصبح عمره خمس سنوات وشهراً .
رجلان بثياب بيض
ويقول الكاتب محمد حسين هيكل في كتابه “حياة محمد”، “خرج “محمد” صلى الله عليه وسلم مع أخيه عبدالله في الرضاعة وابن حليمة
يرتعان ويلعبان خلف البيوت، ولم يغيبا إلا قليلاً، وكان في هذه الفترة لم يبلغ الثالثة من عمره - إذ عاد أخوه الطفل السعديّ يعدو
ويقول لأبيه وأمه: ذلك أخي القرشي قد أخذه رجلان عليهما ثيابٌ بيض فأضجعاه فشقا صدره وأخرجا قلبه” . ويروى عن حليمة
أنها قالت عن نفسها وزوجها: “فخرجت أنا وأبوه نحوه، فوجدناه قائماً ممتقعاً وجهه، فالتزمته والتزمه أبوه، فقلنا له: مالك يا بني؟
فأكد لنا ما قاله ابني وأضاف: أنهما أخرجا من صدره شيئاً فطرحاه، ثم غلا صدره وقلبه بثلج في طست من ذهب، ثم أعادا قلبه إلى مكانه” .
وتقول السيدة حليمة: “فخشينا عليه من الشيطان، فأردنا أن نعيده لأمه وهو سليم فأسرعنا به إلى أمه مما أثار دهشتها، فقد كنا حريصين
على استبقائه معنا من قبل، فلما ألحت علينا لمعرفة ما حدث أصدقناها القول فأجابتنا قائلة: “والله لن يمسه الشيطان ولا سلطان له
عليه”، ثم قالت والله حينما حملت به رأيت في المنام أن نوراً قد خرج مني فأضاء كفور بصرى بالشام، وما رأيت حملاً أخف من
هذا الحمل . . وحين ولدت وقع على الأرض، ووضع يديه على الأرض، ورفع رأسه للسماء، وإن لابني هذا لشأناً” .
ولم ينس “محمد” صلى الله عليه وسلم يوم شق صدره، ولم ينس “حليمة السعدية” التي سهرت وضحت من أجله . ولم ينس إخوته
صلى الله عليه وسلم في الرضاعة: عبدالله بن الحارث، وأنيسة بنت الحارث، والشيماء كانت تحضن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وأبا سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمه حمزة بن عبدالمطلب .
----------------
للفايدة