الباقيات الصالحات
يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة الكهف: “واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات
الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا. المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات
خير عند ربك ثوابا وخير أملا”.
والمعنى: واذكر لهم أيها الرسول الكريم ما يشبه هذه الحياة الدنيا في حسنها ونضارتها، ثم في سرعة زوال هذا الحسن
والنضارة لكي لا يركنوا إليها، ولا يجعلوها اكبر همهم، ومنتهى آمالهم.
وقوله عز وجل: “كماء أنزلناه من السماء” بيان للمثل الذي شبّه الله به الحياة الدنيا. أي مثلها في ازدهارها ثم في زوال
هذا الازدهار كهيئة أو كصفة ماء أنزلناه بقدرتنا من السماء، في الوقت الذي نريد إنزاله فيه.
“فاختلط به نبات الأرض” أي امتزج بهذا الماء نبات الأرض فارتوى منه وصار قويا بهيجا يعجب الناظرين إليه. وفي
التعبير بقوله: “فاختلط به نبات الأرض” إشارة إلى كثرة الماء النازل من السماء، وإلى انه السبب الأساسي في ظهور هذا النبات.
وقوله: “فأصبح هشيما تذروه الرياح” بيان لما صار إليه هذا النبات من يبوسته وتفتته، بعد اخضراره وشدته وحسنه.
قال القرطبي: “هشيما” أي متكسرا متفتتا بسبب انقطاع الماء عنه و”تذروه الرياح” أي تفرقه وتنسفه.
زينة الحياة الدنيا
فالآية الكريمة كما يقول الدكتور محمد سيد طنطاوي في تفسيره لها قد شبهت حال الدنيا في حسنها وجمال رونقها، ثم في سرعة
زوالها وفنائها بعد ذلك، بحال النبات الذي نزل عليه الماء فاخضر واستوى على سوقه، ثم صار بعد ذلك يابسا متفتتا تذهب به
الرياح حيث شاءت. وهكذا الحياة تبدو للمتشبثين بها جميلة عزيزة ولكنها سرعان ما تفارقهم ويفارقونها حيث ينزل بهم الموت
فيجعل آمالهم تحت التراب.
ثم ختم سبحانه الآية بقوله “وكان الله على كل شيء مقتدرا” أي وكان الله تعالى ومازال على كل شيء من الأشياء التي من جملتها
الإنشاء والإفناء، كامل القدرة، لا يعجزه شيء.
ثم بين سبحانه القيمة الحقيقية للمال وللبنين فقال: “المال والبنون زينة الحياة الدنيا” والمال: اسم لكل ما يتموله الإنسان ويمتلكه
من النقود والعقار والحرث والأنعام.
والزينة: ما في الشيء من محاسن ترغب الإنسان في حبه.
والمعنى: المال والبنون زينة يتزين بها الإنسان في هذه الحياة الدنيا، ويتباهى بها على غيره وإنما كانا كذلك لأن في المال كما يقول
القرطبي جمالا ونفعا، وفي البنين قوة ودفعا.
الإيمان والعمل الصالح
وفي التعبير بقوله سبحانه “زينة” بيان بديع وتعبير دقيق لحقيقتهما فهما زينة وليسا قيمة، فلا يصح أن توزن بهما أقدار الناس وإنما
توزن أقدار الناس بالإيمان والعمل الصالح.
ولذا جاء التعقيب منه سبحانه بقوله: “والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا”.
أي المال والبنون زينة يتزين ويتفاخر بها كثير من الناس في الحياة الدنيا، وإذا كان الأمر كذلك في عرف كثير منهم، فإن الأقوال الطيبة
والأعمال الحسنة، هي الباقيات الصالحات التي تبقى ثمارها للإنسان، وتكون عند الله تعالى “خير” من الأموال والأولاد، ثوابا وجزاء
وأجرا “وخير أملا” حيث ينال بها صاحبها في الآخرة ما كان يؤمله ويرجوه في الدنيا من فوز بنعيم الجنة.
وقد ساق الإمام ابن كثير جملة من الآثار في تعيين المراد بالباقيات الصالحات فقال: قال ابن عباس وسعيد بن جبير واكثر من واحد من
السلف إن “الباقيات الصالحات” هي الصلوات الخمس. وقال عطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير عن ابن عباس “والباقيات الصالحات”
سبحان الله والحمد لله، ولا اله إلا الله، والله اكبر.
ويقول الدكتور طنطاوي، يبدو لنا أن قوله تعالى: “والباقيات الصالحات” لفظ عام يشمل كل قول أو عمل يرضي الله عز وجل،
ويدخل في ذلك دخولا أوليا: الصلوات الخمس وغيرها مما ذكره المفسرون من أقوال.
وسمى سبحانه ما يرضيه من أقوال وأعمال الباقيات الصالحات لأنها باقية لصاحبها غير زائلة ولا فانية، بخلاف زينة الحياة الدنيا فإنها زائلة فانية.
------------
للفايدة