جنات تجري من تحتها الأنهار
“مَثَل الجنة التي وُعِد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمرٍ لذة للشاربين وأنهار من عسل مُصفى
ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم” (محمد: 15).“مَثَل الجنة التي وُعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أُكُلها دائم وظلها
تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار” (الرعد: 35).
يقول الصادق الأمين عليه الصلاة والسلام في صفة الجنة، وما فيها “فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر”
فيأخذ ابن عباس هذا المعنى ليخرج منه بقوله: ليس في الجنة من الدنيا إلا الأسماء، فليست هناك ألفاظ في لغتنا العربية أو في غيرها
يمكن ان تعبر عن حقيقة الجنة وحقيقة ما فيها، فما بالك بجنات عرض كل منها كعرض السماوات والأرض، نعيمها دائم وأكلها دائم،
وظلها دائم، لا نهاية بل خلود ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك.
إن الجنة حقيقة، بل الجنات حقيقة، واقرأ إن شئت في سورة الرحمن “ولمن خاف مقام ربه جنتان” ثم “ومن دونهما جنتان”
وما أعد الله للمؤمنين من “جنات تجري من تحتها الأنهار” و”جنات تجري تحتها الأنهار” و”جنات عدنٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً” (البينة: 8)
وقد تكون هذه أسماء لأنواع من جنات خاصة تضمها جميعا جنة كبرى لا حدود لها، وتدبر قول الحق تبارك وتعالى في سورة الزمر:
“وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا، حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين.
وقالوا الحمدلله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين” (الزمر: 73 - 74)،
فهي الجنة الكبرى لها أبواب لا يعلم شكلها ولا طبيعتها إلا الله سبحانه وتعالى، وفيها من النعيم درجات ودرجات وجنات وجنات، فهناك
جنات عدن وجنات المأوى والفردوس الأعلى، وهناك دار السلام، وهناك جنات النعيم وجنات الفردوس، وجنات عالية، وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله الخالق الأحد سبحانه وتعالى.
خلق جديد
إن الله سبحانه وتعالى حين يدخل الإنسان الجنة فإنه يخلقه خلقا جديدا يختلف تماما عن خلقه في الحياة الدنيا، خلقا لا يموت ولا يهرم ولا ينكس في الخلق ،
خلقا لا يمرض ولا ينام ولا يصيبه تعب ولا نصب ولا لغوب، خلقا لا يتبول ولا يتبرز ولا يجوع ولا يعطش، ولا تصاب النساء بالطمث ولا تحمل ولا تلد،
خلقا لا يحمل في صدره من غل أو حقد أو حسد أو كره، خلقا ليس في قلبه خوف من شيء، قلبه كل حب لله ولمن معه في الجنة، فهل يمكننا أن نتخيل ذلك؟
وللحياة الآخرة سننها التي قدرها الخالق عز وجل.
ويشرب أصحاب الجنة قبل دخولها من الحوض حيث رسول الله صلى الله عليه وسلم يسقيهم بيديه الشريفتين فلا يظمأ من يشرب منه بعد ذلك أبدا،
فلماذا إذن يشرب أصحاب الجنة الماء واللبن والخمر والعسل؟ فلو تأملنا حال الإنسان في الدنيا - ولله المثل الأعلى - لوجدناه يشرب حتى
ينطفئ ظمؤه ويرتوي، ولكنه يعود إلى الشرب ثانية إذا عرض عليه ماء بارد أو شراب طيب وهنا يكون الشرب للذة فقط وليس لإطفاء الظمأ،
فكذلك شراب أهل الجنة كما تقول الآية الكريمة “لذة للشاربين” وهي لذة متجددة لا تنتهي وتزداد حلاوتها مرة بعد مرة، وكذلك الطعام لذة للآكلين.
أنهار من لبن
وحين يضرب الحق تبارك وتعالى لنا مثل الجنة بأن فيها أنهاراً من ماء غير آسن وأنهاراً من لبن لا يتغير طعمه وأنهاراً من خمر غير مسكرة ولكنها
كلها لذة للشاربين وأنهاراً من عسل مصفى، فإنه سبحانه وتعالى يعطينا أمثلة لأشياء نعرفها بأشياء صعب علينا تصورها، فنحن نعرف الأنهار
ونعرف الماء واللبن والخمر والعسل، ولكن هل يتخيل أحد ماء لا يأسن ولا يتغير طعمه ولا لونه من دون معالجته معالجات خاصة لإزالة ما به
من شوائب واملاح وميكروبات وطحالب ومترسبات؟ طبعا مثل ذلك الماء لا يمكن أن يوجد في أنهار الأرض رغم كون جميع انهار الأرض من الماء، فذلك هو مثل ماء أنهار الجنة.
وتنقلنا الآية الكريمة إلى مثل آخر أصعب في تصوره من الأول، وهو “أنهار من لبن”، فهل يتخيل أحد نهرا مثل نهر النيل أو نهر دجلة أو نهر الفرات
أو أي نهر آخر عبارة عن لبن خالص طيب اللون والمذاق والرائحة لا يتغير طعمه ولا قوامه ولا رائحته؟ فما طبيعة ذلك النهر بل تلك الأنهار، من أين
تنبع وأين تصب، وما طبيعة أرضها وجدرانها؟ هل هي صخرية أو من الحديد أو النحاس أو من الفضة أو الذهب أو من الماس؟ إن اللبن في الدنيا شراب
لكل البشر من دون استثناء كالماء إلا أن استهلاكه أقل بكثير من الماء، وهو عرضة للتغير الحتمي بالتعرض للهواء ومرور الوقت حيث يتلف إذا ترك
هكذا من دون معالجة أو تبريد لبضع ساعات، حتى أن لبن الناقة يختلف عن الألبان الأخرى بصعوبة حفظه وتداوله في الأسواق ولذلك يقتصر شرب
لبن الناقة على البدو والقرويين الذين يشربونه بعد الحلب خلال ساعات قليلة وإلا فسد ولذلك لا نجد محال لبيع ألبان النوق سواء سائبة أم معلبة.
وهكذا فكلنا يعرف اللبن وطعمه ولونه ويعرف الأنهار ولكننا لا نتصور أنهارا من اللبن، رغم أنها في الجنة حقيقة لا خيالاً، وسوف يراها أصحاب الجنة ويشربون منها بأمر الله.
خمر وعسل
وتتدرج الآية في الترقي بتصورنا وخيالنا، فبعد الماء الذي يستهلكه كل الناس يوميا فيشربون منه مرات ومرات، يأتي اللبن الذي يشربه كل الناس ولكن على فترات
متباعدة وبكميات أقل من الماء بكثير، ثم تأتي الخمر والتي تتعاطاها فئات من غير المسلمين ويدمنها بعضهم ويتحدثون عما تفعله بهم من سكر وتوهان وفقدان
للإرادة ومن تشتت للفكر وضعف الإرادة وتخيل ما ليس له وجود وكما قال الشاعر:
فإذا شربت فإنني رب الخورنق والسدير
وإذا أفقت فإنني رب الشويهة والبعير
ولكن المثل القرآني يذكرنا بصفة محددة تميز خمر الجنة، ألا وهي اللذة فقط، لا سكر ولا آثار جانبية تضر أجهزة الجسم المختلفة كما هو معروف عن خمر
الدنيا مثل التهابات وسرطانات الكبد والتهابات المعدة والقلب والأعصاب والتشنجات والغيبوبة والتوهان وغير ذلك مما نجد تفصيله في كتب الطب، إنها خمر
لذة للشاربين، أنهار من خمر (وليس من الخمر) هكذا غير معرفة لأنها سر من اسرار الخالق، أنهار يشرب منها أصحاب الجنة كيفما شاؤوا فيتلذذون
بشربها وتزداد اللذة كلما شربوا منها، فلا تنتهي الخمر ولا حدود للذتهم من شربها.
وينتهي المثل لأنهار الجنة بمثل آخر لنوع من الشراب لا يشربه إلا القليل من الناس ويتداولونه بينهم بكميات قليلة، وهو شراب موجود في كل مكان وزمان
كالماء واللبن والخمر ولكن بكميات محدودة، ذلك هو العسل، فنحن نعرف العسل وأن منه انواعاً كثيرة جداً وحين نشربه فإننا نأخذ منه كميات قليلة، وعادة
ما نمزجه بالماء أو أي شراب آخر لغلظ قوامه وشدة حلاوته، ويتم جمعه من خلايا النحل بكميات قليلة دائماً فهل نتخيل أنهاراً من العسل، بل من العسل المصفى؟
عسل يجري ليس في قناة صغيرة أو جدول أو ترعة أو نهير أو حتى نهر، بل أنهار من عسل مصفى تجري به من دون انقطاع إلى ما لا نهاية، ذلك مثل من أنهار الجنة.
ثمار الجنة
ويتمتع أصحاب الجنة بشراب الجنة من ماء ليس كماء الدنيا، ولبن ليس كلبن الدنيا، وخمر ليست كخمر الدنيا، وعسل مصفى ليس كعسل الدنيا، فماذا يأكلون؟
تقول الآية الكريمة: “ولهم فيها من كل الثمرات” (محمد: 15) أي أن كل ما يخطر على بالهم وما لا يخطر على بالهم من ثمر يجدونه في الجنة،
والثمار كذلك ليست كثمار الدنيا، وذلك أن ثمار الدنيا متشابهة شكلاً ولونا وطعما، فطعم التفاح مثلا هو طعمه في كل مكان مع اختلافات قليلة من مكان إلى آخر،
فالتفاح اللبناني والأمريكي والصيني وغيره قد يختلف قليلاً في اللون والحجم ولكن طعمه في النهاية متقارب،
ولكن في الجنة “فيهما من كل فاكهة زوجان” (الرحمن: 52) فالثمار تشبه الثمار الأخرى ظاهريا تماماً ولكنها تختلف تماماً في مذاقها وحلاوتها
وإن كانت من الشجرة نفسها ومن الفرع نفسه، وهكذا يتناول صاحب الجنة ثمرة فيعجبه مذاقها وحلاوتها فيتناول ثمرة أخرى فيفاجأ بطعم مختلف ومذاق
أحلى وأجمل، وهكذا تختلف كل ثمرة عن أختها رغم تشابههما الظاهري “كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل، وأتوا به متشابها
ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون” (البقرة: 25)، وحين يذكر القرآن الكريم بعض أنواع الفاكهة كالنخل والرمان كما في سورة الرحمن
فإن ذلك يكون على سبيل المثال لا الحصر، ففي الجنة من الفاكهة ما يتمناه الانسان وما لا يعرفه او يخطر له على بال، وكمثال آخر يقول الحق تبارك وتعالى:
“وفاكهة مما يتخيرون. ولحم طير مما يشتهون” (الواقعة: 20-21) فيذكر لحم الطير كأطيب انواع اللحوم في الدنيا ولكن ذلك لا يعني أنه النوع الوحيد من اللحوم في الجنة.
الحور العين
ويزوج الله سبحانه وتعالى أصحاب الجنة بحور عين “كأمثال اللؤلؤ المكنون” (الواقعة: 23)، فذلك مثلهن، فهل رأيت حبات اللؤلؤ في أصدافها كم
هي جميلة لامعة رائعة في حسنها؟ ويضرب لهن الرحمن مثلا آخر في سورة الصافات “وعندهم قاصرات الطرف عين. كأنهن بيض مكنون” (الصافات: 48-49)
فهل رأيت البيضة في تناسقها وصفاء بياضها وحسن استدارتها مكنونة تحتضنها النعامة أو الدجاجة بحنان وحب؟ ففيها بذرة الحياة وامتداد الجنس، وتلك أمثال
الحور العين في جمالهن وبياضهن وجمالهن وتناسق أجسادهن كاللؤلؤ وكالبيض المكنون، وهن بعد ذلك قاصرات الطرف لا ينظرن إلى غير أزواجهن ولا يتمتعن
بغير أزواجهن، إنهن زوجات من نوع خاص أشد الخصوصية وارتباطهن ليس له مثيل في الدنيا، خلق جديد وإنشاء جديد لا يتغيرن بتغير الزمن ولا تترك السنوات
بل والقرون على وجوههن أي أثر، متجددات الحسن، فائقات الجمال يزداد حسنهن كل يوم، ليس في الجنة عجوز ولا ذوات وجوه قبيحة أو أجساد غير سوية “
إنا أنشأناهن إنشاء. فجعلناهن أبكارا. عربا أترابا. لأصحاب اليمين” (الواقعة: 35-38) وهكذا يجد أصحاب الجنة زوجاتهم في الدنيا
خلقا جديدا وإنشاء جديدا، فضلا من ربك إن فضله كان عظيما.
وولدان الجنة يطوفون بالأكواب والأباريق والصحائف الذهبية على أصحاب الجنة، وذلك مثلهم في كتاب الله الكريم “ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا” (الإنسان: 19)
فهل رأيت اللؤلؤ المنثور كم هو جميل يجذب الأنظار ويسر الناظرين؟ ذلك هو مثلهم ولكنهم أجمل من ذلك وأبهى منظرا وأكثر حسنا.
كان ذلك مثل الجنة التي وعدها الخالق عز وجل للمتقين، وهي موجودة حقيقة، فقد رآها الرسول عليه الصلاة والسلام ليلة الإسراء والمعراج عند سدرة المنتهى وذاق ثمرها وقص علينا خبرها.
أنهارمن العسل
نحن نعرف العسل وأن منه أنواعاً كثيرة جداً، وحين نشربه فإننا نأخذ منه كميات قليلة، وعادة ما نمزجه بالماء أو أي شراب آخر لغلظ قوامه وشدة حلاوته، ويتم جمعه
من خلايا النحل بكميات قليلة دائماً، فهل نتخيل أنهاراً من العسل، بل من العسل المصفى؟
عسل يجري ليس في قناة صغيرة أو جدول أو ترعة أو نهير أو حتى نهر، بل أنهار من عسل مصفى تجري به من دون انقطاع إلى ما لا نهاية، ذلك مثل من أنهار الجنة.
-------------
للفايدة