دعوة إلى التفكر بطريقة مستنيرة
“ضرب لكم مثلا من انفسكم هل لكم مما ملكت ايمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم انفسكم. كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون”. (الروم)
يخاطب الحق تبارك وتعالى ذوي العقول، ويدعوهم الى تحرير تلك العقول والتفكر بطريقة مستنيرة للوصول الى الحق والايمان بالخالق الواحد الذي لا يشاركه في ملكه أحد، ولا ينبغي ان يكون له شركاء، ويضرب لهم الأمثال لذلك من واقع حياتهم وتعاملهم مع بعضهم البعض، من انفسهم.
مقارنة عقلانية
هل يقبل احدكم أو يرضى ان يشاركه في ماله أو أملاكه التي رزقها الله له، أي عبد من بيده أو مملوك له، فيتصرف ذلك المملوك في المال والأملاك كما يتصرف فيها سيده سواء بسواء؟ وهل يقبل احدكم ان يكون لمملوكه هذا الحق دون اعتراض منه أو من احد غيره؟ لا شك في أن أي انسان منكم لن يقبل ذلك ولن يرضاه، فله وحده حق التصرف في أمواله وما يملك، بل وفي عبيده وما ملكت ايمانه.
فكيف إذاً تقبلون ان يكون لله الخالق مالك الملك كله شركاء من مخلوقاته وعباده يتصرفون في ملكه كيفما شاؤوا وكأنه ملكهم هم، وكأن لله نصيبا ولهم نصيب لا ينازعهم فيه غيرهم؟ تعالى الله عما تقولون وعما تعبدون من دونه، وعما تشركون به.
فلو كان لكم عقول تفقهون بها وتفكرون بها وتتفكرون فيما ضربه الله لكم منمثل لعقلتم تماما انكم على باطل، وأن ما لا ترضونه لأنفسكم لا ينبغي ان ترضونه لله الواحد الأحد بأي حال من الأحوال.
إنكم تعلمون جميعا ان الله هو الخالق خالق كل شيء عن خلق كل شيء من لا شيء، وكما بدأ خلق كل شيء فهو ينهيه كما بدأه، يزيد في الخلق كيف يشاء، وينقص في الخلق كيف يشاء، لا راد لحكمه ولا مبدل لقضائه، فكيف يشارك المخلوق أياً كان هذا المخلوق خالقه في ملكه وقضائه وقدره وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرا ولا موتاً ولا حياة ولا نشورا؟
وهل يعقل ان يعطي السرمدي الأبدي شطرا من ملكه وسلطانه للمحدود الفاني ليتصرف فيه كيف يشاء بمطلق حريته وارادته؟
هكذا يفصل الحق تبارك وتعالى الآيات لمن يعقل ولمن يفكر ولمن يتدبر، أما من اتبع هواه واستمع الى شياطين الانس والجن وأغلق عقله وقلبه عن تلقي نور الحق فذلك عذر ولا رجاء ولا دعاء “أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله يهد به من بعد الله. أفلا تذكرون(23)” (الجاثية)
شركاء متشاكسون
ويضرب الحق تبارك وتعالى للناس مثلا آخر بلسانهم العربي المبين لعلهم يثوبون الى رشدهم وينصرفون عما هم فيه من ضلال وفكر سقيم “ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون(27)، قرأنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون (28) ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا. الحمد لله بل اكثرهم لا يعلمون (29)” (الزمر)
فتخيل معي ان هناك مجموعة من الشركاء يملكون عبدا لكل منهم فيه نصيب، فهو عبد لهم جميعا، ولكنهم مختلفون في طباعهم وفي معاملتهم له، فهذا يأمره بشيء وذاك ينهاه عن الشيء نفسه، وهذا يأمر بعمل ما والآخر يضربه ويعنفه إن قام بهذا العمل.
وهكذا لا يتفقون على رأي ولا على تصرف واحد تجاه هذا العبد، فهو منهم في عناء دائم، وهم مستمر ليل نهار، فهل يستوي هذا العبد مع عبد آخر لرجل واحد يملكه ويعامله معاملة واحدة يتعود عليها هذا العبد ويودي عمله بالطريقة التي ترضي سيده فيكافئه بحسن المعاملة وحسن الجزاء والمعروف، طبعاً لا يستويان.. ومن منا يفضل ان يكون مثل العبد الأول الذي “فيه شركاء متشاكسون” ولا يفضل ان يكون “رجلا سلما لرجل” غير انسان جاهل غير عاقل؟
حمار يحمل اسفارا
وهكذا لا يستوي من يعبد آلهة متعددة ليس لها منهج ولا شريعة ولا أوامر ولا نواه، ومن يعبد إلهاً واحداً مالكاً غير مملوك، له منهجه الواضح وشريعته الثابتة التي لا تتغير، وصراطه المستقيم.. ومع ذلك رضي كثير من الناس بأن يكونوا أشقى الاثنين فخسروا الدنيا والآخرة.
لقد ارسل الله رسله الكرام بالهدى ودين الحق، وبالايات البينات مخاطباً عقول البشر ومبينا لهم الصواب من الخطأ، والحق من الباطل، فاهتدى بهم كثير من الناس فنجوا وفازوا، وأبى أخرون إلا العمى والضلال وعبادة الطاغوت والشيطان رافضين الهدى والنور، ومثلهم في ذلك مثل ثمود ومثل بني إسرائيل “وأما ثمود فهديناهم فاستجبوا العمى على الهدى. فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون (17) ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون (18)” (فصلت) وأما بنو إسرائيل فإن مثلهم في كتاب الله الحكيم “مثل الذين حملوا التوارة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل اسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله، والله لا يهدي القوم الظالمين (5)” (الجمعة) فليست العبرة بما لديهم من كتب وبما جاءهم من البينات ولكن العبرة بما استوعبته عقولهم وقاموا به من اعمال اتباعا لمنهج الحق والصراط المستقيم.
ويتابع الحق تبارك وتعالى الامثال يضربها للناس من واقع حياتهم ومن انفسهم ليتفكروا ويعقلوا الصواب، فنقرأ في سورة النحل مثلين متتابعين “ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء. ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق من سرا وجهرا. هل يستوون، الحمد لله بل اكثرهم لا يعلمون (75) وضرب الله مثلا رجلين احدهما ابكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه اينما يوجهه لا يأت بخير. هل يستوي هو ومنيأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم (76)”.
الحر والعبد
ويصور لنا المثل الأول رجلين؛ أولهما عبد لا يملك من أمر نفسه شيئا، لا مال له ولا قيمة له، بل اكثر من ذلك لا قدرة له على فعل أي شيء، فهو كائن لا قيمة له ولا خطه له وكأنه لا وجود له،
فكأن ذلك مثل الصنم الذي يعبد من دون الله، فهل يستوي ذلك مع الثاني الحر كامل الارادة الذي رزقه الله رزقا كثيرا طيبا فهو حر ينفق منه كما علمه الله في السر وفي العلانية ابتغاء مرضاة الله، فذلك مثل المؤمن المقر بفضل الله وحده عليه والذي يتصرف فيما رزقه الله من مال حسب أوامر الله ونواهيه. وقبل ان الأول مثل الكافر الذي لا يقدر على فعل شيء يرضي الله سبحانه وتعالى. والواضح ان المثل لرجلين لا يمكن مقارنتهما ببعض عقلا، وذلك كالكفر والايمان الفرق بينهما واضح والبون شاسع ولا يلتقيان.
أما المثل الثاني فهو كذلك لرجلين يمثلان الكفر والايمان، أو يمثلان الأوثان والمعبودات من دون الله مقارنة بالله الواحد الأحد وصراطه المستقيم،
فالأول رجل ابكم، أي لا يستطيع الكلام وبالتالي فهو أصم لا يسمع كغيره من الكفار “صم بكم” لأنه لو كان يسمع لحاول ترديد ما يسمعه ولكن وسيلة الاستقبال هذه عنده معدومة ومفقودة من البداية،
واضافة الى ذلك فهو عديم الفائدة لا يقدر على عمل شيء، فهو عبء على سيده لا يؤدي له أي عمل مفيد، واينما وجهه سيده الى جهة لم يأت منها بخير، بل قد يأتي بغير ذلك، وليس لديه طريق واحد أو وجهه واحده بل طرق متعددة كلها لا يأتي منها بخير.
فهل يستوي ذلك الرجل قياسا وعقلا ومنطقا مع الرجل الآخر الذي يتبع منهجا واضحا مستقيما لا يحيد عنه؟ فهو يأمر دائما بالعدل، والعدل فقط، ولا يحيد عن منهجه وصراطه المستقيم، فذلك مثل المؤمن، أو مثل الله سبحانه وتعالى الواحد الأحد الذي يأمر بالعدل والذي ليس له إلا صراط واحد مستقيم لا عوج فيه، وفيه الخير كله لمن اتبعه وسار فيه.
إن الاجابة انها لا يستويان هذا شيء وهذا شيء آخر، لا يلتقي الكفر بالايمان ولا يستوي به، لا يستوي العمى والضلال بالهدى والنور، لا يستوي الضعف والنقص والضياع مع القوة والرشد والكمال والعدل.. ذلك يعلمه تماما بعض المشركين، منهم من كان يفكر في الخلق والخالق طاردا عبادة الأوثان من قلبه باحثا عن دين ابراهيم عليه السلام قبل بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام، وهؤلاء هم (المتحففون) مثل زيد بن عمرو بن نفيل، وغيره ممن تحدثت عنهم كتب السيرة، ولذلك ينتهي المثل الأول بقوله تعالى “بل اكثرهم لا يعلمون” اشارة الى ان بعضهم اعمل عقله فعلا وفكر وتدبر وعلم..
قضايا بدهية
وهكذا يتضح النور لكل ذي عقل وبصيرة، وكل من نظر حوله في ملك الله، وكل من تفكر في نفسه وما يراه في غيره من الناس، وتتوالى امامه الآيات ويتذكر قول الحق تبارك وتعالى في مواضع أخرى لتنبيه العقول وانارة الأفئدة “وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلا ما تتذكرون (58)” (غافر). “وما يستوي الأعمى والبصير (19) ولا الظلمات ولا النور (20) ولا الظل ولا الحرور (21) وما يستوي الاحياء ولا الأموات. إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور (22) إن أنت إلا نذير (23)” (فاطر)
كلها قضايا بدهية، يقبلها العقل ويعيها جيدا. فمن يقول بأن الأعمى يستوي مع البصير؟ ومن يقول بأن الظلمات تستوي مع النور، أو أن الظل يستوي مع الحر والقيظ الشديد أو الاحياء كالأموات سواءا بسواء، لا يقول ذلك إلا مخادع أو فاقد العقل، ولكن الكفار يقرون ذلك، فيبادون بين نور الحق وظلام الكفر، وبين السميع البصير الواحد الأحد وبين عباده من الأحياء ومن الأموات والجمادات فيعبدون الشمس والقمر والنجوم والكواكب والحيوانات والناس والجن والملائكة وغير ذلك من المخلوقات التي لا تملك لأنفسها نفعاً ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشوراً.
لا يستويان
قال الله سبحانه وتعالى: وما يستوي الأعمى والبصير، ولا الظلمات ولا النور، ولا الظل ولا الحرور، وما يستوي الأحياء ولا الأموات، إن الله يسمع من يشاء، وما أنت بمسمع من في القبور، إن أنت إلا نذير (سورة فاطر: 19 23)
القوم الظالمون
قال الله سبحانه وتعالى: مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل اسفاراً بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين. (سورة الجمعة: 5)
--------------
للفايدة