شب على حب العلم، درس الفقه واللغة على أبي أيوب السجستاني، كما تلقى العلم عن عاصم الأحول والعوام بن
حوشب، وأبي عمرو بن العلاء وعيسى بن محمد الثقفي وغيرهم . ثم ساح في بوادي الجزيرة العربية إلى أن ملأ
جعبته، ثم رجع إلى مسقط رأسه البصرة . واعتكف في داره دائبا على العلم ليله ونهاره، هائما بلذاته الروحية،
فنبغ في العربية وبلغ الغاية في تصحيح القياس واستخراج مسائل النحو .
هو الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي الأزدي اليحمدي، أبو عبدالرحمن من أئمة اللغة والأدب،
ولد بالبصرة سنة 100ه وتوفي سنة 170ه .
نبغ هذا الموسوعي العربي الأول في علوم العربية، وكان سيد أهل الأدب في تصحيح القياس واستخراج النحو
وتعليله فكان هو المؤسس الحقيقي لعلم النحو المعروف باسم سيبويه الذي اعترف في أكثر فصول كتابه بأنه
تلقاه عنه وتعلمه عليه . وقد ذهب في شبابه إلى بلاد الروم مجاهدا للدفاع عن ثغور الإسلام، وأحب علماء العربية
والنحو، وأمضى ثلاث سنوات يجلس إليهم فيسمع منهم، ولا يشترك في الجدل والمناظرة، وعاصر شيخ العربية
أبا عمرو بن العلاء وحضر مجلسه . وكان قد مضى على أبي عمرو أكثر من خمسين سنة يدرس اللغة، وقد
أغراه بعض أصحابه بأن يجادله، وينتصر عليه، فيتحدث عنه الناس ويرتفع اسمه، ولكنه رفض ذلك وآثر
أن يظل منه بمنزلة التلميذ مهما بلغ به العلم .
علم العروض
ويقول الدكتور عبدالفتاح غنيمة في “موسوعة أعلام الفكر الإسلامي” من أبرز الأمور التي تحسب للفراهيدي
تفتق ذهنه واستنباطه علم العروض الذي استخرج منه خمسة عشر بحرا وزاد عليها الأخفش بحرا سماه المتدارك،
وعلى إثر ذلك استطاع ضبط أوزان هذه البحور، مستعينا بالموسيقا التي ألف كتابا فيها . ومن أطرف ما روي
عنه أنه كان يقضي الساعات الطوال ذاهلا عن نفسه، يرفع أصابعه ويحركها لضبط هذه الأوزان وتنسيقها،
وكان له ابن متخلف عقلياً، فدخل عليه وهو في هذه الحال فظنه جن، فخاطبه الخليل بقوله:
لو كنت تعلم ما أقول عذرتني
أو كنت تعلم ما تقول عذلتكا
لكن جهلت مقالتي فعذلتني
وعلمت أنك جاهل فعذرتكا
إن الخليل بن أحمد بذهنه المتأهب والمبدع ابتكر طريقة تدوين أول قاموس عربي لضبط اللغة وحصرها،
فجمع ما كان معروفا في أيامه من ألفاظ اللغة وأحكامها وقواعدها .
وإذا تناولنا الوجه الآخر لشخصية الخليل نجد أن حياته لم تكن صفوا، فقد كان رقيق الحال يملأ نفسه ورع
عجيب، فهو لا يقبل العطاء ولا يريد أن يكون خادما للملوك والأمراء حتى قالوا: “إنه قام في خص من
أخصاص البصرة لا يقدر على فلسين وأصحابه يكسبون بعلمه الأموال”، وآية خلقه أنه كان يستمع في حلقات
العلم من دون أن يشارك في الجدل . وعاش الخليل بن أحمد، زاهداً فقيراً .
ذهن متوقد
وذكر ابن خلكان في كتابه “وفيات الأعيان”: أن الخليل اجتمع وعبدالله بن المقفع ليلة يتحدثان حتى الفجر،
فلما افترقا قيل للخليل: كيف رأيت ابن المقفع؟فقال: رأيت رجلا علمه أكثر من عقله .وقيل لابن المقفع:
كيف رأيت الخليل؟قال رأيت رجلا عقله أكثر من علمه .
ومن دلائل توقد ذهن الخليل وفنون ابتكاره أنه زاد في الشطرنج قطعة سماها جملا استعملها الناس زمنا،
واخترع نوعا من الحساب تمضى به الجارية إلى البائع، فلا يمكنه أن يظلمها، ويقال: إن الخليل كثيرا
ما كان ينشد بيتا للأخطل وهو:
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد
ذخراً يكون كصالح الأعمال
ثم لم يلبث الخليل أن هتف به هاتف الحج، فسافر إلى مكة، وقصد منها إلى البصرة التي استقبلته مكرمة إياه
حيث أقام بقية حياته . وفي تلك الفترة التقى بتلميذه “سيبويه” الذي كان يكتب كل ما يقال، والذي كثر تردده
على مجالس الخليل حتى أحبه، قال له عبارته الخالدة: “مرحبا بزائر لا يمل” .
ثم جاء ختام حياته متسقاً مع طبيعته العامة الحاذقة المندفعة إلى البحث وإلى تجميع الأصول،ذلك أنه رأى
الجارية تخاصم البائع وهي تطالبه بدراهم أخذها منها بمغالطته إياها، فاستخدم الحساب الذي ابتدعه لكي
تمضي به الجارية إلى البائع فلا يمكنه ظلمها، ودخل المسجد وهو يعمل فكره في ذلك، فاصطدم رأسه
بالسارية الضخمة فوقع وأحدث صوتاً شديداً وانقلب على ظهره وتدحرج إلى الأرض مضرجا بالدماء .
وكانت هذه نهاية الرأس المفكر الذي أخرج للناس علماً وفكراً سيظل أثره باقياً ما بقيت العربية، اجتمع
الناس حوله فقال لهم عبارته الأخيرة: “لا تبكوا، فوالله ما فعلت فعلاً أخاف على نفسى منه، وما علمت
أني كذبت متعمدا قط، وأرجو أن يغفر لي التأول” .
----------
للفايدة