بفداحة خسارتهم المادية والمعنوية، وهم يجلون عن الفسطاط وبابليون والاسكندرية والدلتا وأعالي النيل . ولهذا وجدوا في اغتيال
عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرصة سانحة لهم، خصوصاً وقد بلغهم حراجة الموقف العربي الإسلامي في تولية خليفة
ومع الاجماع على خلافة عثمان رضي الله عنه وتولية أمور المسلمين، وضعت الأمور في نصابها، وبدأ الحديث عن توطيد
دعائم الدولة الإسلامية، حيث تتعرض في بعض الأمصار الجديدة لرياح الاسترداد . إذ استغل الروم البيزنطيون هذه الفرصة
وقاموا بتوجيه سفنهم الحربية، قبالة الاسكندرية لمراقبة الأوضاع ورصد تحركات المسلمين وحاميتهم العسكرية، وكانت
لا تزيد على ألف مقاتل . حتى إن بعض الروم المصريين، كانوا يشجعونهم على ذلك .
ويبدو أن امبراطور الروم كان قد حسم الأمر، وهو الذي يحن إلى استرجاع مصر وضمها إلى أملاك امبراطوريته، فأمر
بأن يُعَدّ على جناح السرعة وفي طي الكتمان أسطول ضخم من السفن الحربية لغزو الاسكندرية، “إذ إن الروم كانوا لا يزالون
سادة البحر المتوسط، ولم تكن للعرب والمسلمين أي أعمال بحرية بعد، ولا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يفكر في
ركوب البحر إلى الأعداء ولا يشجع عليه .
استطاع الروم تجهيز ثلاثمئة سفينة، وضعت تحت إمرة البطريق “مانويل” وغادرت القرن الذهبي في خريف 645 م،
ووصلت إلى قبالة ميناء الإسكندرية، حيث ربضت هناك متحينة وقوع الليل من أجل مباغتة الحامية الإسلامية وأخذ المدينة
منها على حين غرة، وقد تم لها ما أرادت إذ احتلت الاسكندرية بتأييد من بعض عملائهم في داخلها، ثم فتكت برجال الحامية
العسكرية الإسلامية، وكذلك بالجالية العربية والإسلامية، بحيث قتل منهم من قتل، وهرب من المدينة من استطاع الهروب والنجاة .
وطمع قائد الروم الأميرال “مانويل” بعد استيلائه على الاسكندرية بالأراضي القريبة منها، وأخذ يتمدّد إليها مستهتراً
بقوة العرب والمسلمين فيها . وكان القائد العربي في حصن بابليون العسكري يراقب تحركات الروم ويتتبع أخبارهم
ويرصد نقاط ضعفهم من أجل الإيقاع بهم .
وبعث خارجة بن حذافة يعلم الخليفة الراشدي عثمان بن عفان رضي الله عنه بما آلت إليه الأمور في الاسكندرية
ونواحيها، وأنه لا بد من مواجهتهم ووقف تقدمهم والتصدي لهم بكل قوة .
أما عمرو بن العاص والي مصر، فقد
كان له رأي آخر، يرى ضرورة التمهل ريثما ينقلب القبط على الروم، فيكونون في المعارك العسكرية إلى جانب المسلمين .
وقد حسم سيدنا عثمان رضي الله عنه الأمور بسرعة وشجع قائده خارجة بن حذافة على وضع خطة عسكرية
لمواجهة الروم . كما طلب من عمرو بن العاص أن يحسم الأمر في حرب الروم من دون إضاعة الفرصة مع التشديد
على استمالة القبط إلى جانب المسلمين وموادعة الروم المحليين وعدم إيذائهم، وذلك من خلال عهود أمان لهم .
إن فضل سيدنا عثمان رضي الله عنه في تثبيت الإسلام في مصر كان عظيماً، إذ أمر خارجة بن قدامة، كما أمر
عمرو بن العاص بأن ينزلا إلى ملقاة الروم قبل وصول حملتهم إلى الفسطاط باتجاه حصن بابليون، ولهذا ما إن
أوشكت حملة الروم على الدنو من حصن “نيقوس” حتى نهض عمرو بن العاص لملاقاتهم الروم بخمسة عشر ألف
مقاتل، فجرت المعركة بالقرب من حصن “نيقوس” وكانت عنيفة شديدة، وقد استبسل عمرو بن العاص نفسه
واقتحم الصفوف بعد أن عقر فرسه .
فقتل البطريق “مانويل” وولى أنصاره الأدبار نحو الاسكندرية . فسار
عمرو بن العاص في إثرهم وحاصر الإسكندرية مرة ثانية، فهدم أسوارها حتى لا يترك للروم سبيلا، ثم اقتحمها
المسلمون فوادعوا القبط وصالحوا الروم البلديين، وفرّ الروم من مصر إلى غير رجعة .
وقرر سيدنا عثمان رضي الله عنه أن يطهر أرض المغرب العربي: ليبيا وتونس والجزائر والمغرب من الروم
بصورة نهائية وأن يبسط سلطان الإسلام على شمالي إفريقيا، ما سيمهد بعد ذلك للعبور إلى الأندلس .
وتحقيقاً لحلمه الإسلامي العربي المنشود ولّى على مصر القائد العربي المشهور عبد الله بن أبي سرح بعد أن
اعتزل عمرو بن العاص العمل في مكة .
فقاد الجيوش العربية الإسلامية من مصر إلى تونس والمسافة بينهما
زهاء خمسمئة كلم على الساحل وكانت طريق الصحراء أقصر من ذلك . وكان يقطعها متريثاً خشية كمائن
وخرج قائد الروم “غريغوار” لقتال العرب، وقد اختار المعركة عند الضحى بالقرب من “سبيطلة”، بأعداد
عظيمة تفوق أعداد العرب بكثير . غير أن النجدات التي وصلتهم من قبائل البربر المسلمين، قوّت من
عزائمهم . فثبتوا لعدوهم، وقاتلوا قتالاً شديداً .
وكان ابن الزبير رضي الله عنه بين القادة العرب على أرض
المعركة وقد آنس غرة من قائد الروم، فطعنه برمحه فسقط أرضاً، فنهض ابن الزبير لشدّة شجاعته
وحماسته فوقه وأجهز عليه، ثم حمل المسلمون على الروم وهزموهم .
“قفصة” فسبوها وغنموها، فانتهت حروب الإسلام في عهد عثمان رضي الله عنه بعد أن انبسط من
بلاد الشام إلى حدود طنجة في الشمال الإفريقي شمال المغرب العربي اليوم .