عن بلاد إيران وبلاد البلوجستان وبلاد الأفغان . وكذلك عن إقليم أذربيجان وكردستان، وعن جزء عظيم من أرمينيا مما يلي بحر
قزوين . وقد تمّ فتح معظم هذه الأمصار والمدن وتم توطيد الإسلام فيها، وظلت هناك جهات أخرى منها المرويان وطخارستان
وبلخ وسجستار، عصية على الإسلام حتى بداية ولاية عثمان رضي الله عنه على المسلمين .
والواقع أنه بعد أن أصاب أبو لؤلؤة المجوسي الفارسي من الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه مقتلاً، وهلع
المسلمون لذلك هلعاً عظيماً اغتنم الكرد الفرصة وانقلبوا على المسلمين في تلك البلاد . وقد سارع أبو موسى الأشعري وكان والياً
على البصرة، لرد القوم إلى الطاعة، فجهز أربعين بغلاً وحض الناس على اتباعه مشياً على الأقدام إلى فارس . فاستهول العرب
الأمر، وخرج وفد منهم إلى المدينة، فقابلوا الخليفة عثمان رضي الله عنه واستعفوه من أبي موسى، فعزله الخليفة الراشدي
الثالث وولى مكانه عبد الله بن عامر القرشي، وهو ابن خاله، وكان ابن خمس وعشرين سنة، وجمع له جند أبي موسى،
بالإضافة إلى جند عثمان بن أبي العاص من عمان والبحرين .
واستكمالاً لخطة النهوض الإسلامي وتثبيت أوتاد الإسلام في فارس، جهز عبدالله بن عامر ما وضعه عثمان رضي الله عنه
تحت قيادته من جند الكوفة والبصرة وعمان والبحرين، ثم استأذن الخليفة بصرف عبيد الله بن معمر عن خراسان، وبعثه
إلى فارس . واستكمل الأمر، فولى على خراسان عمير بن عثمان بن سعد، فسار بجنده حتى بلغ فرغانة، وكان إذا مرّ
بكورة خربة أصلحها: طرقاً وجسوراً وحصوناً وقنوات . وكذلك فعل مثله الأمراء الآخرون، بحيث صاروا يتقدمون في
البلاد ويصلحون منشآتها المخربة مما يلي أمصار المسلمين بعد توطيد أوتاد الإسلام فيها من ربط ومسالح وحصون
وثغور وحصون . وظل شأنهم على هذه الحال في التعامل مع الأوضاع الجديدة في فارس حتى بلغوا حدود الصين .
وقف الخليفة عثمان رضي الله عنه موقفاً حاسماً إزاء ثورة الأهالي في فارس على الإسلام والمسلمين . ولهذا نراه يأمر
عبيد الله بن معمر بالمبادرة إلى الحسم السريع دون تأخير، فسار إليهم عبيد الله والتقى جموعهم في اصطخر .
وقد استبسل عبيد الله بن معمر في المعركة مع المرتدين الفرس، وظل يقاتلهم حتى ظفر بالشهادة . ولما بلغ
عثمان رضي الله عنه مقتل عبيد الله على أرض المعركة أمر ابن عامر بالبصرة فاستنفر أهل البصرة، وسار بالناس
إلى فارس، حيث التقى قائد الفرس باصطخر فهزمه منتقماً لمقتل عبيد الله ثم هزم جموع الفرس وأوقع بهم وقعة
عظيمة وأخذ المدينة عنوة .
بعد ذلك قصد إلى “دار أبجرد”، ومن هناك توجه إلى مدينة “جور” فافتتحها . ولم تلبث اصطخر مرة ثانية أن
انتفضت، فحاصرها حصاراً طالت مدته . ولم تستسلم إلابعد أن رماها بالمنجنيق حتى افتتحها عنوة، وأوقع
بها وقعة شديدة وقتل عدداً كبيراً من أعيان الفرس .
وبعيد رجوع ابن عامر إلى البصرة بلغه أن أهل خراسان عادوا ونقضوا العهود ونكثوا ما كانوا قد قطعوا من
معاهدات، فقدم إليه الأحنف بن قيس وقال له: “أيها الأمير إن عدوك منك هارب ولك هائب، والبلاد واسعة،
فسر فإن الله ناصرك ومعز دينه” .
ووقع خطاب الأحنف من قلب ابن عامر موقعاً عظيماً، فجهز جيشاً وسار من جديد إلى فارس . وقد استخلف
على البصرة زياداً، واستعمل على حرب سجستان الربيع بن زياد الحارثي . كما استخلف على كرمان
مجاشع بن مسعود السلمي . وتقدم ابن عامر إلى نيسابور، وجعل في المقدمة الأحنف بن قيس، فدهم
“الطبسين” وهما حصنان وباب خراسان ففتحهما عنوة ثم تقدم جيشه إلى نيسابور وفتحها .
وكان الخليفة عثمان رضي الله عنه يتسقط أخبار فارس ويشدّ من أزر المجاهدين وقد بعث برسالة إلى
الأحنف بن قيس أن يتوجه إلى طخارستان،
فوصل إلى “سوا نجرد” فصالحه أهلها على ثلاثمئة ألف درهم .
ثم مضى إلى “مرو الروز” فقاتله أهلها في أول الأمر، ثم لم يلبثوا أن صالحوه . واستولى ابن قيس
على رستاق (بغ) فعظم الأمر على طخارستان فثار أهلها من جديد، غير أن ابن قيس قاتل الفرس
ومن معهم من الترك قتالاً عظيماً وهزمهم . ثم توجه إلى بلخ فدخلها فاتحاً وكانت عاصمة طبرستان .
وإلى كرمان توجه مجاشع بن مسعود السلمي فافتتح عاصمتها “السيرجان” واقتحم الأمصار المحيطة
بها، في حين سار الربيع بن زياد الحارثي إلى سجستان وفتحها . وتوجه القائد العربي عبد الله بن حازم
إلى قاران واستولى عليها . وجميع هذه المغازي، كان يقوم بها أهل البصرة . أمّا أهل الكوفة،
فكانت مغازيهم تتوجه إلى أذربيجان وطبرستان . وحيناً بعد حين كانت تعود ثورات أهالي تلك البلدان
وينزعون إلى الشغب حتى استطاع اخضاعها في العصر الأموي يزيد بن المهلب في خلافة سليمان بن عبد الملك .
ونحن نشهد للخليفة الراشدي الثالث سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، أنه كان له من قوة الشخصية ومن
الاعتداد بالنفس ما جعل القيادة العربية الإسلامية في بلاد فارس تبادر إلى حسم المعارك وتحقيق الانتصارات
ويقال إنه لما تمّ لابن عامر ذلك الفتح العظيم في بلاد فارس قيل له: “لم يفتح لأحد ما فتح
عليك” فقال: “لا جرم لأجعلن شكري لله على أن أخرج محرماً إلى مواطن الهدى وحرم الله ودار الخليفة
سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه” . وقد خرج فعلاً ماشياً محرماً إلى بيت الله، مسجلاً بذلك
موقفاً عربياً إسلامياً، كما لم يقفه أي قائد آخر .