مخيف، وزفرت الصدور آهات الغضب للمصرع الجلل، وقضى الناس بها ليلهم واجمين مضطربين، وقد أغرقوا بالبكاء
والنشيج، وبلغت الصدور الحناجر، وشعر جميع المسلمين، بأن ما نزل بهم من ويل وثبور، لهو من عظائم الأمور، ويكاد
أن يكون فوق طاقة الناس على الاحتمال، وفوق قدرتهم على الاصطبار .
لقد أدرك الفاروق رضي الله عنه عندما طعنه أبو لؤلؤة المجوسي، تلك الطعنة المسمومة والخبيثة، أنه لا بدّ من قضاء
الله عز وجل، وبدأ يفكر فيمن سيخلفه من الرجال .
وكان يعلم أن علياً رضي الله عنه من أفضل رجالات الصحابة لتولي
هذا الأمر من بعده، غير أنه خشي أن يعتقد المسلمون أن مثل هذا الأمر هو من حق بني هاشم، وهذا ما لم يعهد به
رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم في حياته، فكيف يسير به عمر رضي الله عنه بعد مماته؟
ولمعت للفاروق وهو في أوج استغراقه في مآل الخلافة، أن الأمر هو من حقوق المسلمين جميعاً، فلماذا لا يتركهم وشأنهم
يختارون للولاية عليهم من يشاؤون؟ ولما استقر به الرأي على ذلك واجه أصحابه وأولي الشأن من قريش
“عليكم هؤلاء الرهط الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم من أهل الجنة: علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان،
وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، فليختاروا منهم رجلاً، فإذا
ولوا والياً فأحسنوا مؤازرته، وأعينوه، وإن ائتمن أحداً منكم فليؤدِ إليه أمانته” .
ثم دعا علياً وعثمان وسعداً
وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام . فلما مثلوا أمامه قال لهم: “إني نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم،
ولا يكون هذا الأمر إلا فيكم، وقد قبض رسول الله وهو عنكم راضٍ . إني لا أخاف الناس عليكم إن استقمتم، ولكنما
أخاف عليكم اختلافكم فيما بينكم فيختلف الناس، فانهضوا إلى حجرة عائشة، فتشاوروا واختاروا رجلاً منكم” .
“فإذا مت فتشاوروا ثلاثة أيام، وليصل بالناس صهيب ولا يأتي اليوم الرابع إلا وعليكم أمير منكم . ويحضر
عبدالله بن عمر مشيراً، وليس له من الأمر شيء وطلحة بن عبيد الله شريككم في الأمر وكان غائباً فإن قدم في الأيام
الثلاثة فأحضروه أمركم، وإن مضت الأيام الثلاثة قبل قدومه فاقضوا أمركم، وما أظن إلا أحد هذين الرجلين سيلي أمركم:
علي أو عثمان، فإن ولي عثمان فرجل فيه لين، وإن ولي علي ففيه دعابة . وأحرى به أن يحملهم على الحق” .
ونادى سيدنا عمر رضي الله عنه أبا طلحة الأنصاري وقال له: “يا أبا طلحة إن الله عز وجل طالما أعز الإسلام بكم .
فخذ خمسين رجلاً من الأنصار، فاستحث بهم هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلاً منهم” . ونادى على المقداد بن الأسود
وقال له: “إذا وضعتموني في حفرتي فاجمع هؤلاء الرهط في بيت حتى يختاروا رجلاً منهم . وأحضر معهم عبدالله بن عمر
وقم على رؤوسهم . فإن اجتمع خمسة ورضوا رجلاً واحداً وأبى واحد، فاشدخ رأسه بالسيف . وإذا اتفق أربعة فرضوا
رجلاً منهم وأبى اثنان فاضرب رأسيهما بالسيف . فإن رضي ثلاثة رجلاً منهم، وثلاثة رجلاً منهم، فحكموا عبدالله بن عمر .
فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلاً منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر، فكونوا مع الذين فيهم
عبد الرحمن بن عوف، واقتلوا الباقين إن رغبوا عما اجتمع عليه الناس” .
وبعد وفاة أمير المؤمنين الفاروق رضي الله عنه اجتمع رجال الشورى وكانوا يعدون خمسة نفر: علي وعثمان والزبير
وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وحضر عبدالله بن عمر، وكان طلحة لا يزال غائباً . وكان المسلمون يعلمون
أن الخلافة بين أحد رجلين: علي وعثمان . وذهب أنصار علي يؤيدونه، وعمد أنصار عثمان إلى تأييده أيضاً .
وحين رأى عبد الرحمن بن عوف ذلك الانقسام الشديد، أخرج نفسه من الأمر . وبدأ يقوم بالمشاورات بين أهل الرأي
وأهل الشورى، فوجد ميلاً إلى تولية عثمان رضي الله عنه . وأحس الإمام علي كرم الله وجهه بانفضاض الأصوات من
حوله مما أغضبه وأثار غيظه .
فكان أن بادر عبد الرحمن إلى مناجاتهما ليلة حتى الصباح . ثم جمع رجال الشورى
ورهطاً من المهاجرين والأنصار وأمراء الأجناد . ودعا عبد الرحمن عثمان رضي الله عنه وبايعه بالخلافة ورفع رأسه
ويده في يد عثمان فقال: “اللهم اسمع واشهد، اللهم إني قد جعلت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان” .
علي رضي الله عنه: “ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا . فصبر جميل والله المستعان . والله ما وليت عثمان إلا ليرد
فقال عبد الرحمن: “يا علي لا تجعل على نفسك حجةً وسبيلاً . فإني قد نظرت وشاورت الناس فلم
ويقول المؤرخون إن علياً رضي الله عنه عاد بعد ذلك ببرهة صغيرة إلى المسجد حيث كانوا يجتمعون وبايع عثمان .
وروى الطبري في تاريخه أن علياً تلكأ في بيعة عثمان، فقال عبد الرحمن بن عوف: “ومن ينكث فإنما ينكث على نفسه،
ومن أوفى بما عاهد الله عليه فسيؤتيه أجراً عظيماً”، فرجع الإمام علي رضي الله عنه يشق الناس حتى بايع .