{فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ}:
أعظم خصائص القرآن الكريم

قرآن بجمعه بين أمرين عظيمين، لم يجتمعا للكتب السماوية قبله: الإعجاز والمنهجية، والسمتان تعكسان شيئاً من العظمة القرآنية:
السمة الأولى: القرآن معجزة متجددة:
القرآن الكريم هو المعجِز الخالد المتجدد الذي لا تنقضي عجائبه، وأدلة ذلك كثيرة، ومن الأدلة الإجمالية على ذلك:
الدليل الأول: قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت:41 -42).
و{عزيز} هنا تحتمل المعاني الأربعة الآتية:
المعنى الأول: غالب لمن رام تغييره أو تحريفه على ما قرره النسفي: عزيز أي: منيع الجناب محمي بحماية الله {لا يَأْتِيهِ الْبَـاطِلُ} التبديل أو التناقض {مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} أي: بوجه من الوجوه.
المعنى الثاني: غالب معارضيه فلا يمكن معارضته أو الإتيان بمثله على ما قرره ابن كثير: لا يرام أن يأتي أحد بمثله.
المعنى الثالث: غالب بِالحجة لمن كذب به.
المعنى الرابع: غالب بالفضل لما سواه من الكتب من حيث إِنَّ الغلبةَ تستلزم التفضل والتفَوق، وغالبٌ لبلغاء العرب إذ أعجزهم عن معارضة سورةٍ منه، ويكون حكيماً مثل صفَة منزله، وقرر هذين المعنيين الأخيرين الطاهر بن عاشور.
ويمكن إضافة معنى خامساً وهو أنه غالب جميع الدساتير والمناهج التي يراد منها إسعاد البشر، فلا توجد السعادة إلا فيه، ولذا جعل الله القرآن العظيم مفتاح آلائه، ومصباح قلوب أوليائه، وربيعهم الذي يهيم به كل منهم في رياض برحائه، ودليل الصدق، وبرهان الحق أمام الحائر المتردد أو المبطل المرتكس في جفائه.
الدليل الثاني: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} (النساء:174):
هذه الآية عجيبة عظيمة تجمع أفانين من المعاني الفخيمة:
- فالقرآن برهان وحجة على أعدائه وخصومه من المنكرين، ونور لأتباعه من السائلين المتحيرين.
- والقرآن برهان للعقول والمفاهيم والأفكار، ونور للقلوب والعواطف والأبصار.
ولذا قال ابن كثير: "يقول تعالَى مخاطباً جمِيع الناس ومخبراً بأنه قَد جاءهم منه برهان عظيم، وهو الدليل القَاطع للعذر، والحجة المزيلة للشبهة؛ ولهذا قال: {وَأَنزلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} أَي: ضياء واضحًا على الحق، قَال ابن جريج وغيره: وهو القرآن"، فالبرهان هو الحجة الواضحة الفاصلَة، وميزة برهان القرآن أنه لم يقترن بزمان ولا مكان، بل إنه برهان على اختلاف الأعصار، وتنوع الأمصار،
ولذا قال فيه البوصيري:
لم تــقـــترن بزمــانٍ وهــي تخبــرنا
عن المعاد وعن عادٍ وعن إرم
دامـــت لديــنا ففــــاقت كل مــعجزةٍ
من النبيين إذ جاءت ولم تـــدم
محكمــــاتٌ فَمــا تبقِين من شبهٍ لذي
شقَـــاقٍ ولا يبــغين مــن حــكم
ما حوربت قَط إِلا عــــاد من حربٍ
أعدى الأعـادِي إليها ملقي الســلم
ردت بلاغتها دعو?ى معـارضها رد
الغــيور يـد الجــاني عــن الحرم
لها معانٍ كموج البـــحر في مـــدد
وفـوق جوهره في الْحسن والقيم
فما تعد ولا تحـــص?ى عجــــائبـــها
ولا تسـام على الإكـــثار بالسأم
قَرت بها عيــــن قَاريهَا فقــــلت له
لقَد ظــفرت بحبل الله فاعتصم
إن تتلها خيفَـــــة من حر نار لظى?
أطفأت حر لَظى? من وردها الشبم
الدليل الثالث: في "الصحيحين" عن أبِي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (ما من الأنبياء نبي إِلا أعطي ما مثله آمن عليه الْبشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله لَي، فَأرجو أن أكونَ أكثرهم تابعاً يوم القيامة).
قال ابن حجر في بيان الحديث لتجدد المعجزة القرآنية: "المعجزات الماضية كانت حسية تشاهد بالأبصار، كناقة صالح، وعصا موسى، ومعجزة القرآن تشاهد بالبصيرة فيكون من يتبعه لأجلها أكثر؛ لأن الذي يشاهد بعين الرأس ينقرض بانقراض مشاهده، والذي يشاهد بعين العقل باق يشاهده كل من جاء بعد الأول مستمراً".
وبين ابن حجر سر ترتيب قوله: (فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة) على معجزة القرآن فقال: "رتَّب هذا الكلام على ما تقدم من معجزة القرآن المستمرة؛ لكثرة فائدته، وعموم نفعه، لاشتماله على الدعوة والحجة والإخبار بما سيكون، فعم نفعه من حضر ومن غاب، ومن وجد ومن سيوجد، فحسن ترتيب الرجوى المذكورة على ذلك، وهذه الرجوى قد تحققت فإنه أكثر الأنبياء تبعاً".
---------------
للفايدة