الموضوع
:
كلمات مـــــــن القلــــب الــى القلـــــــب
عرض مشاركة واحدة
11-04-2015, 02:48 AM
#
9729
الفقير الي ربه
كبار الشخصيات
رد: كلمات مـــــــن القلــــب الــى القلـــــــب
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد:
إنَّ الحمد لله تعالى، نَحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، مَن يَهْدِ الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحْده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
﴾ [آل عمران: 102].
﴿
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا
﴾ [النساء: 1].
﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
﴾ [الأحزاب: 70، 71].
أمَّا بعدُ
:
فإنَّ أصْدَقَ الحديث كتاب الله تعالى، وخَيْرَ الهَدْيِ هَدْيُ محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وشَرَّ الأمور مُحدثاتها، وكلَّ مُحدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
كفى بالموت واعظًا، وللقلوب مقرحًا، وللأحبَّاء مفتتًا،
وللعيون مُبكيًا، وللنُّفوس محزنًا، وللجَماعات مُفرِّقًا، وللذَّات هادِمًا، وللأُمنيات قاطعًا.
فالموت:
يُفرِّق بين الأحباب والأصحاب، ويُباعد بين الأقرباء، ويَحُول بين القرناء، ويهدمُ اللَّذَّات، ويقطعُ الصِّلات، ويُيتِّمُ البنين والبنات، ويُشتِّت الجماعات.
الموت:
له هَيْبَةٌ تخضع لها الرؤوس، وتنحني لها الظُّهور، وله رهبةٌ تخشع لها النُّفوس، وتَرجُف من أجلها القُلوب.
الموت:
يَمضِي في طَريقه ولا يتوقَّف ولا يَتلفِت، لا يستجيب لصَرخة مَلهُوف، ولا لحسْرة مُفارق، ولا لرغبة راغبٍ، ولا لخوف خائفٍ، ولا للوعة أمٍّ، أو شَفقة أبٍ، أو حَنين طفل.
الموت:
قَضاء نافِذ، وحُكم شامل، وأمر حاتم لازم، لا تمنع منه حَصانة القِلاع، ولا يَحُول دُونه حِجابٌ، ولا تردد الأبواب، كما قال العزيز الوهَّاب: ﴿
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ
﴾ [النساء: 78].
الموت:
لا يَخاف الأباطرة والأكاسرة، ولا يَخشى الملوك والقَياصِرة، ولا يَرهب الأُمَراء والقادة، ولا الزُّعَماء والسَّادة، يبطشُ بالعظيم كما يبطشُ بالحقير، ويُفنِي الشيخ الكبير كما يُفنِي الولد الصغير، ويُهلِك الكهلَ القويَّ، كما يُهلِك الشابَّ الفتي، لا يرحم مسكينًا ولا فقيرًا، ولا يترك عَزِيزًا ولا ذَلِيلاً، ولا يدعُ بارًّا تقيًّا، ولا جبَّارًا عصيًّا، لم ينجُ منه أميرٌ أو وزيرٌ، ولم يسلمْ منه غنيٌ أو فقيرٌ، وما ترَك نبيًّا ولا وليًّا ولا تقيًّا، ولا يُحابي زاهدًا أو عابدًا، بل شمل المُقِرَّ والجاحد، والصَّحيحَ والسَّقيم، والمريض والسَّليم، بل لم يسلمْ منه الملائكةُ الكرام، وحملةُ العرش العظام، وجبريل - عليه السَّلام - وآخِر مَن يموتُ ملكُ الموت.
فالموت:
عاقبة كلِّ حيّ، وخِتام كلِّ شيّ، ونهاية كلِّ موجود، سوى الربِّ المعبود، يستوي فيه المالك والمملوك، والسيِّد والمسُود، فلا مفرَّ منه ولا مَحِيص عنه، ولا مَناص من سُلطانه، ولا إفلات من شِباكه، فهو سنَّة الله في خَلقه، ولن تجد لسنَّة الله تبديلاً، فمهما عاش المخلوق فهو إلى الموت صائر، قال تعالى: ﴿
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ
﴾ [الرحمن: 26، 27].
فالكلُّ سيموت، غير ذي العزَّة والجبروت.
الموت واللَّحظات الأخيرة:
يقفُ الأحبَّة بجوار مَن يُنازع سَكرات الموت، ويتفكَّرون... أهذا فلان المهاب، الذي ملأ الدنيا ضَجيجًا وصُراخًا، والذي كان منذُ قليلٍ يتحرَّك هنا وهناك؟ هو الآن أصبح جثَّة هامدة لا حَراك لها، قد تقلَّصت الشَّفتان، وثقُل اللسان، وشخصت العَيْنان، وبردت القَدمان، وانهدَّت الأركان.
إنَّه منذُ قليلٍ كان الكلُّ يَهابُه ويَخْشاه، ويتمنَّون رِضاه، أمَّا الآن فيَنظُرون إليه نظرةَ إشفاق.
يُقال له بلسان الحال:
أين لسانُك الفصيح؟ ما أسكَتَك؟ أين صوتُك الشجيُّ؟ ما أخرَسَك؟
أين رِيحك العطرة؟ ما أنتنك؟ أين حَركاتك؟ ما أسكنك؟ أين أموالك الكثيرة؟ ما أفقرك؟
فيا أيُّها الإنسان...
يا مَن كنتَ تجري هنا وهناك، وتمشي على الأرض أو تسبحُ في الماء، أو تركب الفلك أو تطير في الهواء، ولك من المال والأولاد والزوجة الحسناء -
سيأتيك في يومٍ من الأيام ملكٌ مهاب لا يَستأذِنُ لدُخول الأبواب،
ولا يمنعه حِجاب، فأصبحت أيها الإنسان لمالِكَ تاركًا، ولأحبائك مُفارقًا، ولكأس المنيَّة شاربًا، وعلى الله واردًا، انقطعت الأعمال فلا أنت في حَسناتك زائد، ولا إلى دُنياك عائد، إنها مُصيبة عُظمَى.
نعم أحبتي في الله...
الموت من أعظم المصائب التي تحلُّ بالإنسان، وقد سمَّاه الله تعالى في كتابه الكريم: مصيبة؛ فقال تعالى: ﴿
فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ
﴾ [المائدة: 106].
وذلك لأنَّه تبديلٌ من حالٍ إلى حالٍ، وانتقالٌ من دارٍ إلى دار، وهو المصيبة العُظمَى والرزيَّة الكُبرى، وأعظم منه الغَفلة عنه، والإعراض عن ذِكره، وقلَّة التَّفكير فيه، وعدم الاستعداد له.
لذا كان السَّلف الكِرام يُذكِّر أحدُهم أخاه بالموت وما بعدَه؛ حتى يتأهَّب لهذه اللَّحظة ولا يغفل عنها، فالموت خير واعظ.
كما جاء في الحديث الذي أخرجه الطبراني أنَّ الحبيب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((
كفى بالموت واعظًا، وكفي باليقين غنى
)).
وكان الفُضيل - رحمه الله - يقول:
"كفى بالله محبًّا، وبالقُرآن مُؤنسًا، وبالموت واعظًا، وكفى بخشية الله عِلمًا، والاغترار بالله جهلاً".
وجاء في كتاب "التذكرة" للقرطبي صـ99:
"أنَّه قيل لبعض الزُّهَّاد: ما أبلغ العِظات؟
قال:
النظَر إلى الأموات".
فتعالَ أنا وأنت نقفُ على العِبَرِ والعِظات من كَلام السَّلف الكرام، وكيف كان يُعظِّم أحدهم أخاه، وبِمَ كان يُوصِيه.
كتب محمَّدُ بن يوسف بن معدان الأصبهاني إلى أخيه عبدالرحمن بن يوسف
فقال له:
"من محمد بن يوسف إلى عبدالرحمن بن يوسف.. سلامٌ عليك.
فإنِّي أحمَدُ إليك اللهَ الذي لا إله إلا هو، أمَّا بعدُ:
فإنِّي مُحذِّرك مُتحوَّلك من دار مُهْلتك إلى دار إقامتك وجَزاء أعمالك؛ فتَصِير في قَرار باطن الأرض بعدَ ظاهِرها، فيأتيك مُنكرٌ ونَكير، فيُقعِدانك وينتَهِراك، فإنْ يكنِ الله معك فلا بأسَ ولا وحشة ولا فاقة، وإنْ يكن غير ذلك فأعاذني الله وإيَّاك من سُوء مصدع، وضِيق مضجع، ثم تتبعك صيحةُ الحشر، ونفخ الصُّور، وقيام الجبَّار لفصْل قَضاء الخلائق، وخلاء الأرض من أهلها، والسَّماوات من سُكَّانها، فباحت الأسرار، وسُعِّرَتِ النار، ووُضِعت الموازين، وجِيء بالنبيِّين والشُّهَداء، ﴿
وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
﴾ [الزمر: 75]، فكم من مُفتضح ومَستور، وكم من هالكٍ وناج، وكم من مُعذَّب ومرحوم! فيا ليت شعري... ما حالي وحالك يومئذ؟
ففي هذا ما هَدَم اللذَّات، وسلا عن الشَّهوات، وقصَّر الأمل؛ فاستَيْقَظ النائمون وحذَّر الغافلون.
أعانَنَا الله وإيَّاك على هذا الخطَر العظيم، وأوقع الدُّنيا والآخرة من قلبي وقلبك موقعها من قُلوب المتَّقين، فإنما نحنُ به وله
[1]
.
جاء في كتاب "
حلية الأولياء
" (5/295) و"
إحياء علوم الدين
" (4/663) و"
قصر الأمل
"؛ لابن أبي الدنيا صـ66-67 عن القعقاع بن عجلان
قال:
خطَب عمر بن عبدالعزيز، فحَمِدَ الله تعالى وأثنى عليه،
وقال:
"
أيها الناس، إنَّكم لن تُخْلَقُوا عبثًا، ولن تُتْرَكُوا سُدًى، وإنَّ لكم معادًا يجمعكم الله للحُكم فيكم، والفصل فيما بينكم، فخابَ وشقي عبدٌ أخرَجَه الله من رحمته التي وَسِعَتْ كلَّ شيءٍ، وجنَّته التي عرضها السَّماوات والأرض، وإنما يكونُ الأمان غدًا لِمَن خاف الله واتَّقى، وباع قليلاً بكثير، وفانيًا بباقٍ، وشقوة بسعادة، ألا ترَوْن أنَّكم في أسلاب الهالكين، وسيخلف بعدكم الباقون؟!
ألا ترَوْن أنَّكم في كُلِّ يومٍ تُشيِّعون غاديًا أو رائحًا إلى الله، قد قضى نحبَه وانقطع أملُه، فتضعونه في بطن صدعٍ من الأرض غير موسَّد ولا مُمهَّد؟! قد خلَع الأسباب وفارَق الأحباب، وواجَه الحساب؟!
وايمُ الله إنِّي لأقولُ لكم مَقالتي هذه، وما أعلم عندَ أحدٍ مِنكم من الذنوب أكثر ممَّا أعلم من نفسي، ولكنَّها سننٌ من الله عادلة، أمَر فيها بطاعته، ونهى فيها عن معصيته، واستغفَرَ الله ووضَع كُمَّهُ على وجهه؛ فبكَى حتى لَثِقَتْ
[2]
لحيته، فما عاد إلى مجلسه حتى مات - رحمه الله.
وقال عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - لأبي حازم:
"
أوصِني، فقال له أبو حازم: اضَّجِع ثم اجعل الموت عند رأسك، ثم انظُر إلى ما تحبُّ أنْ يكون فيك تلك الساعة فخُذْ به الآن، وما تكره أن يكون فيك تلك الساعة فدَعْه الآن، فلعلَّ تلك الساعة قريبة
".
وقال أبو حازم أيضًا:
"انظُر كل عمل كرهت الموت لأجله فاترُكه، ولا يضرُّك متى متَّ".
ودخَل يزيد الرقاشي على عمر بن عبدالعزيز فقال له: "
عِظني، فقال يزيد الرقاشي: لست أوَّل خليفة تموت يا أمير المؤمنين، قال: زِدني، قال: لم يبقَ أحدٌ من آبائك من لدُن آدم إلى بلغت النوبة إليك إلا وقد ذاق الموت، قال: زِدْنِي، قال: ليس بين الجنَّة والنَّار منزل والله..
. ﴿
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ
﴾ [الانفطار: 13، 14]، وأنت أبصَرُ ببرِّك وفُجورك، فبكى عمر حتى سقَط عن سريره.
ورُوِيَ عن عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله -: "
أنَّه كان في جنازةٍ في مقبرة، فرأى قومًا يهربون من الشمس إلى الظل، فأنشد يقولُ بعد الصلاة على الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم
-:
مَنْ كَانَ حِينَ تُصِيبُ الشَّمْسُ جَبْهَتَهُ
أَوِ الغُبَارُ يَخَافُ الشَّيْنَ وَالشَّعَثَا
-
وَيَأْلَفُ الظِّلَّ كَيْ تَبْقَى بَشَاشَتُهُ
فَسَوْفَ يَسْكُنُ يَوْمًا رَاغِمًا جَدَثَا
-
فِي ظِلِّ مُقْفِرَةٍ غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ
يُطِيلُ تَحْتَ الثَّرَى فِي غُمَّةِ اللَّبَثَا
-
تَجَهَّزِي بِجَهَازٍ تَبْلُغِينَ بِهِ
يَا نَفْسُ قَبْلَ الرَّدَى لَمْ تُخْلَقِي عَبَثَا
وصدَق القائل حيث قال:
وَلَوْ أَنَّا إذَا مِتْنَا تُرِكْنَا
لَكَانَ الْمَوْتُ رَاحَةَ كُلِّ حَيِّ
-
وَلَكِنَّا إذَا مِتْنَا بُعِثْنَا
وَنُسْأَلُ بَعْدَ ذَا عَنْ كُلِّ شَيِّ
روى أبو نعيم الحافظ بإسنادٍ له:
"
أنَّ عمر بن عبدالعزيز شيَّع مَرَّةً جنازةً من أهله، ثم أقبَلَ على أصحابه ووعظَهُم، وذكَر الدنيا فذمَّها، وذكر أهلها وتنعُّمهم فيها وما صاروا إليه بعدَها في القبور، وكان كلامه أنَّه قال: إذا مررت بهم فنادِهِم إنْ كنت مُناديًا، وادعُهم إنْ كنتَ لا بُدَّ داعيًا، ومُرَّ بعَسكِرهم وانظُر إلى تقارُب مَنازِلهم.
سَلْ غنيَّهم ما بقي من غِناه؟ وسَلْ فقيرَهم ما بقي من فقره؟
وسَلْ عن الألسن التي كانوا به يتكلَّمون، وعن الأعيُن التي كانوا إلى اللَّذَّات بها ينظُرون، وسَلْهُم عن الجلود الرقيقة، والوجوه الحسَنة، والأجساد الناعمة... ما صنَع بها الديدان تحت؟! أكلت اللحمان، وعفَّرت الوجوه، ومُحيت المحاسن، وكُسرت الفقار، وبانت الأعضاء، ومُزِّقت الأشلاء، أين صحابهم وقِبابهم؟ أين خَدَمُهم وعَبِيدهم؟ وجمعُهم وكنوزُهم؟ والله ما زوَّدهم فِراشًا، ولا وضَعوا لهم هناك متكئًا، ولا غرَسُوا لهم شجرًا، ولا أنزلوهم من اللحد قَرارًا، أليسوا في مَنازل الخلوات؟ أليس الليل والنهار عليهم سواء؟ أليسوا في مدلهمَّة ظلماء، قد حِيل بينهم وبين العمل وفارقوا الأحبة؟ وكم من ناعمٍ وناعمة أضحوا ووجوههم بالية، وأجسادهم من أعناقهم بائنة، وأوصالهم ممزَّقة، وقد سالت الحدق على الوجنات، وامتلأت الأفواه دمًا وصديدًا، ودبَّت دواب الأرض في أجسادهم؛ ففرَّقت أعضاءهم، ثم لم يلبثوا إلا يسيرًا، حتى تمادَتِ العظام رميمًا، فقد فارَقوا الحدائق، وصاروا بعد السَّعة إلى المضائق، قد تزوَّجت نساؤهم، وتردَّدت في الطرق أبناؤهم، وتوزَّعت القرابات ديارهم وثراهم، يا ساكن القبر غدًا،ما الذي غرَّك في الدنيا؟ هل تعلم أنَّك تبقى لها وتبقى لك؟
أين دارُك الفيحاء ونهرك المطَّرد؟ وأين ثمرتك اليانعة؟ وأين رِقاق ثيابك؟ وأين طِيبك وبُخورك؟ وأين كِسوتك لصيفك وشتائك؟
أمَا والله قد نزَل به الأمر، فما يدفعُ عن نفسه وجلاً، وهو يرشح عرقًا، ويتلمَّظ عطشًا، يتقلَّب في سَكرات الموت وغَمراته، جاء الأمر من السَّماء، وجاء غالب القَدر والقَضاء، هيهات... هيهات يا مغمض الوالد والأخ والولد وغاسله، ويا مكفن الميت وحامله، ويا مخليه في القبر وراجعًا عنه!
ليت شِعري...
كيف على خشونة الثَّرى! ليت شعري... بأيِّ خدَّيْكَ بدأ البِلَى؟! يا مجاور الهالكات، صِرت في محلَّة الموت، ليت شِعري... ما الذي يَلقاني به ملكُ الموت عند خُروجي من الدُّنيا؟ وما يأتيني به من رسالة ربي؟
ثم انصرف، فما عاش بعد ذلك إلا جمعة - رحمه الله تعالى.
يقول ميمون بن مهران:
"خرَجتُ مع عمر بن عبدالعزيز إلى المقبرة، فلمَّا نظَر إلى القبور بكى، ثم أقبل عليَّ فقال:
يا أبا أيوب، هذه قُبور آبائي كأنهم لم يُشارِكُوا أهلَ الدنيا في لذَّتهم وعيشهم، أمَا تراهم صَرْعَى قد حلَّت بهم المَثُلات، واستَحكَمَ فيهم البلاء، وأصاب الهوامُّ في أبدانهم مقيلاً، لسان حالهم
يقول:
كنَّا عِظامًا فصِرنا عِظامًا، وكنَّا نَقُوت فها نحن قُوت، ثم بكى حتى غُشِي عليه، ثم أفاق
فقال:
انطلق بنا، فوالله ما أعلمُ أحدًا أنعم ممَّن صار إلى هذه القبور، وقد أمن من عَذاب الله - عزَّ وجلَّ.
------------------
يتبــــــــــع أن شاء الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التوقيع
اذكروني بدعوه رحمني ورحمكم الله
سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم
أخر مواضيعي
الفقير الي ربه
مشاهدة ملفه الشخصي
البحث عن المشاركات التي كتبها الفقير الي ربه