الإنسان في جزء عم .... "تفسير موضوعي"
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين
لك الحمد حمداً نستلذ به ذكرا
وإن كنت لا أحصي ثناءً ولا شكرا
لك الحمد حمدا طيبا يملأ السما
وأقطارها والأرض والبر والبحرا
لك الحمد حمدا سرمديا ً مباركاً
يقل مداد البحر عن كنهه حصرا
أما بعد :
فعنوان بحثي هذا هو (الإنسان في جزء عم ) وهو على طريقة التفسير الموضوعي وطريقتي في البحث كالتالي :
1. اطلعت على بعض التفاسير وتحديدا ما كتب في تفسير هذه الآيات وبعد ذلك حاولت صياغة تلك المعاني بأسلوب موجز يفهمه القارئ ومحاولاً جمع الفوائد التي لا تخرج عن إطار التفسير الموضوعي والتفاسير هي : (الطبري ، القرطبي ، ابن كثير ، الشوكاني ، السعدي ، ابن عثيمين ) رحم الله الجميع رحمة واسعة
2. وصلت أن أطوار الإنسان في جزء عم هي( الإنسان والمصير المحتوم ، الإنسان والتفكر والتدبر ، الإنسان والخلق ، الإنسان والطغيان ، الإنسان والابتلاء )
3. لم أضع حواشي طلبا للإيجاز وحرصا على الفهم المباشرلما طرح ولأني حاولت المزج بين كلامهم رحمهم الله واقتناص الفوائد وجعلها في عقد منتظم ومن أراد الزيادة فليرجع إلى مظانّ كلامهم في التفاسير آنفت الذكر
أخيرا : هذا جهد مقل وهو عرضة للاستدراك وقصدي فيه الإيجاز و أسأله جل وعلا أن يرزقنا تلاوة كتابه أناء الليل وأطراف النهار وأن يعيننا على تدبره والعمل به وأن يفقهنا فيه وأسأله سبحانه أن يجعله حجة لنا لا علينا إنه أعظم مسؤول وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الإنسان والمصير المحتوم
قال تعالى {فإذا جاءت الطامة الكبرى(34) يوم يتذكر الإنسان ما سعى(35)}النازعات
الطامة الكبرى وهي قيام الساعة ويخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية عن الطامة وهي اسم من أسماء يوم القيامة وهي التي تطم على كل هائلة من الأمور فتغمر ما سواها لعظيم هولها وهي الداهية العظمى وقيل هي النفخة الثانية وقوله(إذا جاءت الطامة الكبرى )حين يساق أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار وفي تلك الأثناء يتذكر الإنسان ما سعى وما عمل من خير وشر ويتذكره لأنه يشاهده مدوناً في صحائف عمله قال تعالى ( ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشوار إقرأ كتابك كفى بنفس اليوم عليك حسيبا ) الاسراء إذا قرأه تذكر ما سعى أي ما عمل ، أما اليوم فإننا قد نسينا ما عملنا ، عملنا أعمالاً كثيرة منها الصالح ومنها اللغو ومنها السيئ لكن كل هذا ننساه وفي يوم القيامة يعرض علينا في كتاب ويقال : اقرأ كتابك أنت بنفسك فحينئذ يتذكر الإنسان ما سعى والله المستعان
وقال تعالى{وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى(23)}الفجر
وفي هذه الآية الكريمة بيان لما يحدث في ذلك اليوم الرهيب حينما تجيء جهنم وتقاد بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يقودونها _ ورد ذلك في صحيح مسلم _ ولها تغيظ وزفير ويومئذ يتذكر الإنسان ويتعظ ويذكر ما فرط ويندم على ما قدم في الدنيا من الكفر والمعاصي وما أسلفه في قديم دهره وحديثه ، فيتوب ويتعظ ولكن هيهات ولات حين مندم ومن أين له الاتعاظ ومن أين له التوبة ؟؟وكيف تنفعه الذكرى وقدم مضى زمنها وانقضى وأتت ساعة الحساب وفات الأوان ، وحينئذ الإيمان عن مشاهدة لا ينفع لأن كل إنسان يؤمن بما شاهد لكن الإيمان النافع هو الإيمان بالغيب (الذين يؤمنون بالغيب) البقرة فيصدق بما أخبرت به الرسل عن الله عز وجل وعن اليوم الآخر وفي ذلك اليوم يتذكر الإنسان ولكن قال الله تعالى ( وأنى له الذكرى ) أي بعيد أن ينتفع بهذه الذكرى التي حصلت منه حين شاهد الحق وحينها يقول ( ياليتني قدمت لحياتي )والله المستعان
قال تعالى {وقال الإنسان مالها(3)}الزلزلة
يخبر الله تبارك وتعالى فيه هذه الآية أنه إذا زلزلت الأرض لقيام الساعة يستفهم الإنسان عن الأرض وما قصتها وقيل المراد به الإنسان الكافر كما روي عن ابن عباس أنه الأسود بن عبد الأسد وقيل أراد كل إنسان يشاهد ذلك عند قيام الساعة في النفخة الأولى من مؤمن وكافر والمقصود أن الإنسان يستنكر أمرها بعدما كانت قارة ساكنة ثابتة وهو مستقر على ظهرها فتقلبت حالها وصارت متحركة مضطربة قد جاءها من أمر الله ما قد أعده لها من الزلزال الذي لا محيد عنه ثم ألقت ما في بطنها من الأموات من الأولين والآخرين فحينها يستنكر الناس أمرها وتبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار وقوله (مالها) أي مالها زلزلت ومالها أخرجت أثقالها ؟ وما شأنها ؟ لشدة الهول وهي كلمة تعجيب لما يرون من الأهوال والله المستعان
وقال تعالى {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه(6)} الانشقاق
الكادح هو الساعي بجد ومشقة ويخبر ربنا تعالى فيه هذه الآية أنك أيها الإنسان _يعم كل إنسان مؤمن وكافر_ عامل إلى ربك عملا فملاقيه به إن كان خيرا فخير وإن شرا فشر وساع إلى ربك وستلقى ما علمت فليكن عملك مما ينجيك من سخطه ويوجب لك رضاه ولا يكن مما يسخطه فتهلك وقوله ( إلى ربك ) يعني أنك تكدح كدحاً يوصلك إلى ربك ,كدحا ًيوصل إلى الله ، يعني أن منتهى كدحك مهما كنت ينتهي إلى الله ، لأننا سنموت وإذا متنا رجعنا إلى الله عز وجل فمهما عملت فإن المنتهى هو الله ، وحتى العاصي إنه كادح كدحاً غايته إلى الله عزوجل ( إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم ) الغاشية لكن الفرق بين المطيع والعاصي أن المطيع يعمل عملاً يرضاه الله والعاصي يعمل بما يغضب الله لكن مع ذلك ينتهون إلى الله عز وجل ولتعلم أيها الإنسان أن كدحك ضعيف فإن استطعت أن تجعله في طاعة الله فافعل ولا حول ولا قوة إلا بالله وقوله(فملاقيه) أي ملاق عملك والمعنى : أنك لا محالة ملاق لجزاء عملك وما تستحق عليه من ثواب أو عقاب وقوله(إنك كادح) أي عامل ناصب في معيشتك إلى لقاء ربك والملاقاة معنى اللقاء : أي تلقى ربك سبحانه وتعالى بعملك وقيل ملاق كتاب عملك لأن العمل قد انقضى والله المستعان
الإنسان والتفكر والتدبر
قال تعالى {فلينظر الإنسان إلى طعامه(24)} عبس
قيل أن المراد هنا بالإنسان الكافر المنكر لتوحيد الله وقيل عامة لجنس الإنسان أي : هلا نظر هذا الإنسان إلى طعامه؟؟ ومأكله ومشربه كيف أنشأه الله وخلقه ومن أين مدخل هذا الطعام ومخرجه وهذا النظر هو نظر القلب بالفكر أي ليتدبر بهذا الطعام الذي هو قوام حياته وكيف هيأ له أسباب المعاش ليستعد بها للمعاد وينبغي للإنسان أن يتذكر عند هذه الآية قوله تبارك وتعالى(أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون لو نشاء لجعلناه حطاماً فظلتم تفكهون إنا لمغرمون بل نحن محرومون )الواقعة من الذي زرع هذا الزرع حتى استوى ويسر الحصول عليه حتى كان طعاما لنا ؟ هو الله عز وجل ولهذا قال ( لو نشاء لجعلناه حطاماً )أي بعد أن نخرجه نحطمه حتى لا تنتفعوا به وفي الآية حظ على حفظ النعم بالشكر والإيمان وبيان منة الله على عباده بأن هيأ لهم أسباب حياتهم .
قال تعالى {فلينظر الإنسان مما خلق(5)}الطارق
هذا الآية الكريمة تدعو الإنسان المكذب بالبعث بعد الممات والمنكر لقدرة الله تعالى أن يتفكر ويتدبر من أي شيء خلقه الله تبارك وتعالى ؟؟ وينظر نظر الاعتبار والبصيرة يقول تعالى (خلق من ماء دافق )وهو ماء الرجل ووصفه الله بأنه مهين ضعيف السيلان ووصفه الله بآية آخرى بأنه نطفة أي قليل من الماء فهذا الذي خلق منه الإنسان والعجب أن يخلق الإنسان من هذا الماء المهين ثم يكون قلبه أقسى من الحجارة والعياذ بالله إلا من ألان الله قلبه لدينه ، وهذا من أسلوب القرآن في إقرار البعث وهو الاستدلال على النشأة الأولى فالذي أنشأ قادر على أن يعيد وفيها تنبيه للإنسان على ضعف أصله الذي خلق منه وإرشاد له إلى الاعتراف بالمعاد ولأن من قدر على البداءة فهو قادر على الإعادة بطريق الأولى كما قال تعالى (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه) الروم .
قال تعالى {علم الإنسان ما لم يعلم(5)}العلق
يمتن الله على الإنسان بأن علمه الخط بالقلم ولم يكن يعلمه وشرفه وكرمه بالعلم فالله أخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئاً وجعل له السمع والبصر والفؤاد قال تعالى( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكن السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ) النحل ويسر الله للإنسان أسباب العلم ، فعلمه القرآن وعلمه الحكمة وعلمه بالقلم الذي تحفظ به العلوم وتضبط به الحقوق وتكون رسلاً للناس تنوب مناب خطابهم وقيل أن المراد بالإنسان هنا هو آدم عليه السلام قال تعالى( وعلم آدم الأسماء كلها ) البقرة فلم يبق شيء إلا علمه الله اسمه وقيل هو محمد صلى الله عليه وسلم ودليله قال تعالى( وعلمك ما لم تكن تعلم )النساءوالأولى حمل الإنسان على العموم والحمد لله .
الإنسان والخلق
قال تعالى {خلق الإنسان من علق(2)}العلق
قوله تعالى من علق أي من دم وعلق جمع علقة والعلقة الدم الجامد الرطب وإذا جرى فهو المسفوح والعلق عبارة عن دودة حمراء من الدم صغيرة وهذا المنشأ الذي به الحياة لأن الإنسان دم لو تفرغ من الدم هلك وسميت بذلك لأنها تعلق لرطوبتها بما تمر عليه فذكر العلق بلفظ الجمع لأنه أراد بالإنسان الجمع وكلهم خلقوا من علق بعد النطفة وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإنسان وخص الله سبحانه وتعالى الإنسان بالذكر تشريفا له لما فيه من بديع الخلق وعجيب الصنع وقيل أراد أن يبين قدر نعمته عليه بأن خلقه من علقة مهينة حتى صار بشراً سوياً وعاقلاً مميزا .
قال تعالى {لقد خلقانا الإنسان في أحسن تقويم(4)}التين
أي في أعدل خلق وصورة والمعنى :لقد خلقنا الإنسان فبلغنا به استواء شبابه وجلده وقوته وهو أحسن ما يكون وأعدل ما يكون وأقومه فهو منتصب القامة سوي الأعضاء حسنها ، وقيل(في أحسن تقويم ) أي الشاب القوي الجلد وقيل شبابه أول ما نشأ وقيل لأنه ليس شيء من الحيوان إلا وهو نكب على وجهه غير الإنسان
قال ابن العربي : ليس الله تعالى خلق أحسن من الإنسان فإن الله خلقه حياً عالماً قادراً مريداً متكلماً سميعاً بصيراً حكيماً وهذه صفات الرب سبحانه _ وللإنسان ما يناسبه من هذه الصفات وإلا فإن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير_ وعليها حمل بعض العلماء قوله صلى الله عليه وسلم ( إن الله خلق آدم عل صورته ....الحديث) رواه البخاري ومسلم .
قال تعالى {لقد خلقنا الإنسان في كبد(4)}البلد
أي لقد خلقنا ابن آدم في شدة وعناء ونصب وأنه حين خلق في مشقة يكابد دنياه وآخرته وتدخل فيها مصائب الدنيا وشدائد الآخرة فهو يكابد طلب الرزق وفي إصلاح الحرث وغير ذلك ويعاني معاناة أشد مع نفسه ومجاهدتها في طاعة الله واجتناب المعاصي وهذا الجهاد هو أشق من معاناة طلب الرزق ولا سيما إذا ابتلي ببيئة منحرفة وصار بينهم غريبا فإنه سيجد المشقة في معاناة نفسه وفي معاناة الناس أيضاً وقيل المراد بالكبد في استقامة يعني أنه خلق على أكمل وجه في الخلقة مستقيماً يمشي على قدميه ويرفع رأسه وبدنه معتدل والآية شاملة للمعنيين لأنه إذا وجدت في كتاب الله آية تحتمل معنيين وليس بينهما مناقضة تحمل عليهما لأن القرآن أشمل وأوسع .
---------------
للفايدة