الإنسان والطغيان
قال تعالى{قتل الإنسان ما أكفره(17)}عبس
أي لعن الإنسان الكافر ما أشد كفره وقيل عذب وقيل المراد به عتبة بن أبي لهب ومعنى ما أكفره أي التعجب من إفراط كفره وقيل معناه :أي اعجبوا أنتم من كفره وقال بعض العلماء الإنسان هنا الكافر خاصة وليس كل إنسان لقوله فيما بعد ( ما أكفره ) ويحتمل أن يكون المراد بالإنسان الجنس لأن أكثر بني آدم كفار كما ثبت في الحديث الصحيح : أن الله يقول يوم القيامة (( يا آدم فيقول : لبيك وسعديك فيقول له الله عز وجل : أخرج من ذريتك بعثاً إلى النار . فيقول : يا رب وما بعث النار ؟ قال : من كل الف تسع مئة وتسعة وتسعين )) أخرجه البخاري فيكون المراد بالإنسان هنا الجنس ويخرج المؤمن من ذلك بما دلت عليه النصوص الأخرى وقيل (ما) هنا استفهامية أي : أي شيء أكفره ؟ ما الذي حمله على الكفر؟
وقال آخرون إن هذا من باب التعجب يعني ما أعظم كفره !! وإنما كان كفر الإنسان عظيماً لأن الله أعطاه عقلاً وأرسل إليه الرسل وأنزل عليه الكتب وأمده بكل ما يحتاج إلى التصديق ومع ذلك كفر فيكون كفره عظيماً والكفر هنا يشمل جميع أنواع الكفر ومنه إنكار البعث .
قال تعالى {كلا إن الإنسان ليطغى (6) أن رءاه استغنى(7)}العلق
كلا هنا ردع وزجر لمن كفر بنعم الله تعالى عليه بسبب طغيانه ومعنى إن الإنسان ليطغى أي أنه يجاوز الحد ويستكبر على ربه وقيل أن المراد بالإنسان هنا أبو جهل وهو المراد بهذا وما بعده إلى آخر السورة والأظهر والله أعلم أن المراد بالإنسان
هنا الجنس : كل إنسان من بني آدم إذا رأى نفسه استغنى فإنه يطغى والطغيان هو مجاوزة الحد إذا رأى أنه استغنى عن رحمة الله طغى ولم يبال ، إذا رأى أنه استغنى عن الله عز وجل في كشف الكربات وحصول المطلوبات صار لا يلتفت إلى الله ولا يبالي ، إذا رأى أنه استغنى بالصحة نسي المرض وإذا رأى أنه استغنى بالشبع نسي الجوع وإذا رأى أنه استغنى بالكسوة نسي العري وهكذا فالإنسان من طبيعته الطغيان والتمرد متى رأى نفسه في غنى ولكن هذا يخرج منه المؤمن لأن المؤمن لا يرى أنه استغنى عن الله طرفة عين فهو دائما مفتقر إلى الله سبحانه وتعالى يسأل ربه كل حاجة ويلجأ إليه عند كل مكروه ويرى أنه إن وكله الله إلى نفسه وكله إلى ضعف وعجز وعورة وأنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرا ً ، هذا هو المؤمن لكن الإنسان من حيث هو إنسان من طبيعته الطغيان
وهذا كقوله تعالى ( وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا) الأحزاب
قال تعالى {إن الإنسان لربه لكنود(6)} العاديات
أي جنس الإنسان إذا لم يوفق للهداية كان كنودا لربه تبارك وتعالى والمراد أن الإنسان لكفور لجحود لنعم الله لوّام لربه يعد المصائب وينسى النعم يرزقه الله عز وجل فيزداد بهذا الزرق عتوا ونفورا ويجحد نعم الله ولا يقوم بشكرها ولا يقوم بطاعة الله
وقيل أن الإنسان الكنود : هو المنوع للخير الذي لله عليه فطبيعة الإنسان وجبلته لا تسمح بأن يؤدي ما عليه من الحقوق بل طبيعتها الكسل والمنع لما عليها من الحقوق المالية والبدنية إلا من هداه الله وخرج عن هذا الوصف إلى وصف السماح بأداء الحقوق .
قال تعالى {إن الإنسان لفي خسر (2)}العصر
المراد بالإنسان هنا جنس الإنسان ويخبر الرب تبارك وتعالى أن بني آدم لفي هلكة ونقصان وشر وضلال عن الحق في كل أحواله وقال بعض العلماء : إن الإنسان إذا عمّر في الدنيا وهرم لفي نقص وضعف وتراجع إلا المؤمنين فإنهم تكتب أجورهم التي كانوا يعملونها في حال شبابهم
وهذه الجملة مؤكدة بثلاث مؤكدات :
1. القسم
2. (إنّ)
3. اللام
وأتى بقوله ( لفي خسر ) ليكون أبلغ من قوله (خاسر) وذلك أن (في) للظرفية فكأن الإنسان منغمس في الخسر والخسران محيط به من كل جانب .
وقول تعالى : لفي خسر : الخسار مراتب متعددة متفاوتة قد يكون خساراً مطلقاً كحال من خسر الدنيا والآخرة وفاته النعيم واستحق الجحيم وقد يكون خسارا من بعض الوجوه دون بعض ولهذا عمم الله الخسار لكل إنسان
إلا من اتصف بأربع صفات :
1. الإيمان بالله ولا يكون الإيمان بدون علم
2. العمل الصالح وهذا شامل لأفعال الخير كلها الظاهرة والباطنة المتعلقة بحقوق الله وحقوق عبادة الواجبة والمستحبة
3. التواصي بالحق الذي هو الإيمان والعمل الصالح أي يوصي بعضهم بعضاً بذلك ويحثه عليه ويرغبه فيه
4. التواصي بالصبر على طاعة الله وعن معصية الله وعلى أقدار الله المؤلمة
فبالأمرين الأوليين يكمل العبد نفسه وبالأمرين الآخيرين يكمل غيره وبتكميل الأمور الأربعة يكون العبد قد سلم من الخسار وفاز بالربح العظيم .
الإنسان والابتلاء
قال تعالى {فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن (15) وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن(16)}الفجر
أن الإنسان إذا ما امتحنه ربه بالنعم والغنى وأكرمه وأفضل عليه ونعمه بما أوسع من فضله فيقولربي أكرمن فيفرح بذلك ويسر به ويقول ربي أكرمني بهذه الكرامة ولا يعترف بفضل الله وإذا ما امتحنه ربه بالفقر فقدر عليه رزقه وضيقه عليه وقتره فلم يكثر ماله ولم يوسع عليه فيقول ربي أهانن أي : ربي أهانني وأذلني بالفقر ولم يشكر الله على ما وهب له من سلامة جوارحه ورزقه من العافية في جسمه ويقول إن الله ظلمني فأهانني ولم يرزقني كرزق فلان ولم يكرمني كما أكرم فلان فصار عند الرخاء لا يشكر يعجب بنفسه ويقول هذا حق لي وعند الشدة لا يصبر بل يعترض ، والله يخبر ذلك منكراً على الإنسان في اعتقاده إذا وسع الله تعالى عليه في الرزق ليختبره في ذلك فيعتقد أن ذلك من إكرام الله له وليس كذلك بل هو ابتلاء وامتحان كما قالتعالى ( أيحسبون أنما نمدهم بهمن مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون ) وكذلك في الجانب الآخر إذا ابتلاه وضيق عليه في الرزق يعتقد أن ذلك من الله إهانة له كما قال تعالى (كلا) أي ليس الأمر كما زعم لا في هذا ولا في هذا فإن الله تعالى يعطي المال من يحب ومن لا يحب ويضيق على من يحب ومن لا يحب والدنيا بأسرها لا تساوي عند الله جناح بعوضة ولو كانت تعدل جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء وإنما المدار
في ذلك على طاعة الله في كل من الحالين : إذا كان غنيا بأن يشكر الله على ذلك وإن كان فقيراً بأن يصبر فالمؤمن إذا أكرمه الله تعالى ونعمه شكر الله ورأى أن هذا فضل من الله عز وجل وإحسان وليس من باب الإكرام الذي يقدم لصاحبه على أنه مستحق وإذا ابتلاه الله عز وجل وقدر عليه رزقه صبر واحتسب
وقال :هذا بذنبي والرب سبحانه لم يهني ولم يظلمني فيكون صابراً عند البلاء شاكراً عند الرخاء وفي الآيتين إشارة إلى أنه يجب على الإنسان أن يتبصر فيقول مثلاً : لماذا أعطاني الله المال ؟ ماذا يريد مني ؟ يريد مني أن أشكر . لماذا ابتلاني بالفقر وبالمرض وما أشباه ذلك ؟ يريد مني أن أصبر فليكن محاسباً لنفسه حتى لا يكون مثل حال الإنسان المبنية على الجهل والظلم .
والله أعلم
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
--------------
للفايدة