عذاب القبر من أمور الغيب ، وكم من إنسان في هذه المقابر يعذب ونحن لا نشعر به ،
وكم جار له منعم مفتوح له باب إلى الجنة ونحن لا نشعر به، فما تحت القبور
لا يعلمه إلا علام الغيوب ، فشأن عذاب القبر من أمور الغيب ،
ولولا الوحي الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام ، ما علمنا عنه شيئاً ،
ولهذا لما دخلت امرأة يهودية إلى عائشة وأخبرتها أن الميت يعذب في قبره فزعت
حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخبرته وأقر ذلك عليه الصلاة والسلام ،
ولكن قد يُطلِعُ الله تعالى عليه من شاء من عباده ،
مثل ما أطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على الرجلين اللذين يعذبان ،
أحدهما يمشي بالنميمة ، والآخر لا يستنزه من البول .
والحكمة من جعله من أمور الغيب هي:
أولاً : أن الله – سبحانه وتعالى – أرحم الراحمين فلو كنا نطلع على عذاب القبور
لتنكد عيشنا، لأن الإنسان إذا اطّلِع على أن أباه ، أو أخاه ، أو ابنه ، أو زوجه ،
أو قريبه يعذب في القبر فإنه يقلق ولا يستريح . وهذه من نعمة الله سبحانه .
ثانياً : أنه فضيحة للميت فلو كان هذا الميت قد ستر الله عليه ولم نعلم
عن ذنوبه بينه وبين ربه عز وجل ثم مات وأطلعنا الله على عذابه ،
صار في ذلك فضيحة عظيمة له ففي ستره رحمة من الله بالميت .
ثالثاً : أنه قد يصعب على الإنسان دفن الميت كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام
: " لولا ألا تدافنوا لسألت الله أن يسمعكم من عذاب القبر" رواه مسلم 2868 .
ففيه أن الدفن ربما يصعب ويشق ولا ينقاد الناس لذلك ، وإن كان من يستحق
عذاب القبر عذب ولو على سطح الأرض ، لكن قد يتوهم الناس أن العذاب لا يكون
إلا في حال الدفن فلا يدفن بعضهم بعضاً.
رابعاً: أنه لو كان ظاهراً لم يكن للإيمان به مزية لأنه يكون مشاهداً لا يمكن إنكاره ،
ثم إنه قد يحمل الناس على أن يؤمنوا كلهم لقوله تعالى : ( فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده )
غافر / 84 ، فإذا رأى الناس هؤلاء المدفونين وسمعوهم يتصارخون آمنوا وما كفر
أحد لأنه أيقن بالعذاب ، ورآه رأي العين فكأنه نزل به .
وحِكَم الله سبحانه وتعالى عظيمة ، والإنسان المؤمن حقيقة هو الذي يجزم بخبر الله أكثر
مما يجزم بما شاهده بعينه ؛ لأن خبر الله عز وجل لا يتطرق إليه احتمال الوهم ولا الكذب ،
وما تراه بعينيك يمكن أن تتوهم فيه ، فكم من إنسان شهد أنه رأى الهلال، وإذا هي نجمة ،
وكم من إنسان شهد أنه رأى الهلال وإذا هي شعرة بيضاء على حاجبه وهذا وهم ،
وكم من إنسان يرى شبحاً ويقول:هذا إنسان مقبل، وإذا هو جذع نخلة ، وكم من إنسان
يرى الساكن متحركاً والمتحرك ساكناً ، لكن خبر الله لا يتطرق إليه الاحتمال أبداً.
نسأل الله لنا ولكم الثبات ، فخبر الله بهذه الأمور أقوى من المشاهدة ،
مع ما في الستر من المصالح العظيمة للخلق .
والله أعلم
منقول