بَابُ : بَيَانِ جَوَازِ النَّسْخِ وَالْفَرْقِ بَيْنَهُ ..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
اتَّفَقَ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الأُمَمِ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ عَقْلا وَشَرْعًا ، وَانْقَسَمَ الْيَهُودُ فِي ذَلِكَ ثَلاثَةَ أَقْسَامٍ : فَالْقِسْمُ الأَوَّلُ ، قَالُوا : لا يَجُوزُ عَقْلا وَلا شَرْعًا ، وَزَعَمُوا أَنَّ النَّسْخَ هُوَ عَيْنُ الْبَدَاءِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي ، قَالُوا : يَجُوزُ عَقْلا ، وَإِنَّمَا مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْ ذَلِكَ ، وَزَعَمُوا أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ ، قَالَ : إِنَّ شَرِيعَتَهُ لا تُنْسَخُ مِنْ بَعْدِهِ ، وَإِنَّ ذَلِكَ فِي التَّوْرَاةِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ قَالَ : لا يَجُوزُ النَّسْخُ إِلا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُ عِبَادَةٍ أَمَرَ اللَّهُ بِهَا بِمَا هُوَ أَثْقَلُ عَلَى سَبِيلِ الْعُقُوبَةِ لا غَيْرَ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ ، قَالُوا : يَجُوزُ شَرْعًا لا عَقْلا ، وَاخْتَلَفَ هَؤُلاءِ فِي عِيسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَمْ يَكُونَا نَبِيَّيْنِ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَأْتِيَا بِمُعْجِزَةٍ ، وَإِنَّمَا أَتَيَا بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الشَّعْوَذَةِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : كَانَا نَبِيَّيْنِ صَادِقَيْنِ ، غَيْرَ أَنَّهُمَا لَمْ يُبْعَثَا بِنَسْخِ شَرِيعَةِ مُوسَى ، وَلا بُعِثَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ، إِنَّمَا بُعِثَا إِلَى الْعَرَبِ وَالأُمِّيِّينَ.
فَصْلٌ وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ عَقْلا ، فَهُوَ أَنَّ التَّكْلِيفَ لا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى مَشِيئَةِ الْمُكَلِّفِ أَوْ عَلَى مَصْلَحَةِ الْمُكَلَّفِ ، فَإِنْ كَانَ الأَوَّلُ ، فَلا يُمْتَنَعُ أَنْ يُرِيدَ تَكْلِيفَ الْعِبَادِ عِبَادَةً فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ ، ثُمَّ يَرْفَعَهَا وَيَأْمُرَ بِغَيْرِهَا.
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ الْمَصْلَحَةُ لِلْعِبَادِ فِي فِعْلِ عِبَادَةِ زَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ ، وَيُوَضِّحُ هَذَا أَنَّهُ قَدْ جَازَ فِي الْعَقْلِ تَكْلِيفُ عِبَادَةٍ مُتَنَاهِيَةٍ كَصَوْمِ يَوْمٍ ، وَهَذَا تَكْلِيفٌ انْقَضَى بِانْقِضَاءِ زَمَانٍ ، ثُمَّ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَنْقِلُ مِنَ الْفَقْرِ إِلَى الْغِنَى ، وَمِنَ الصِّحَّةِ إِلَى السُّقْمِ ، ثُمَّ قَدْ رَتَّبَ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ وَاللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمَصَالِحِ وَلَهُ الْحُكْمُ.
فَصْلٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ شَرْعًا ، أَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ مِنْ دِينِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَوْلادِهِ ، جَوَازُ نِكَاحِ الأَخَوَاتِ ، وَذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَالْعَمَلِ فِي يَوْمِ السَّبْتِ ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فِي شَرِيعَةِ مُوسَى ، وَكَذَلِكَ الشُّحُومُ كَانَتْ مُبَاحَةً ثُمَّ حُرِّمَتْ فِي دِينِ مُوسَى ، فَإِنِ ادَّعَوْا أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِنَسْخٍ فَقَدْ خَالَفُوا فِي اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى.
فَصْلٌ وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : لا يَجُوزُ النَّسْخُ إِلا عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ إِذَا أَجَازَ النَّسْخَ فِي الْجُمْلَةِ جَازَ أَنْ يَكُونَ لِلرِّفْقِ بِالْمُكَلَّفِ ، كَمَا جَازَ لِلتَّشْدِيدِ عَلَيْهِ.
فَصْلٌ وَأَمَّا دَعْوَى مَنِ ادَّعَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ ، أَخْبَرَ أَنَّ شَرِيعَتَهُ لا تُنْسَخُ فَمُحَالٌ.
وَيُقَالُ : إِنَّ ابْنَ الرَّاوُنْدِيِّ عَلَمَّهُمْ أَنْ يَقُولُوا : أَنَّ مُوسَى قَالَ : لا نَبِيَّ بَعْدِي ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا : أَنَّهُ لَوْ صَحَّ قَوْلُهُمْ لَمَا ظَهَرَتِ الْمُعْجِزَاتُ عَلَى يَدِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لا يُصَدِّقُ بِالْمُعْجِزَةِ مَنْ كَذَّبَ مُوسَى ، فَإِنْ أَنْكَرُوا مُعْجِزَةَ عِيسَى لَزِمَهُمْ ذَلِكَ فِي مُعْجِزَةِ مُوسَى ، فَإِنِ اعْتَرَفُوا بِبَعْضِ مُعْجِزَاتِهِ ، لَزِمَهُمْ تَكْذِيبُ مَنْ نَقَلَ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ ، لِأَنَّهُ قَالَ : لا نَبِيَّ بَعْدِي ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى كَذِبِهِمْ فِيمَا ادَّعَوْا ، أَنَّ الْيَهُودَ مَا كَانُوا يَحْتَجُّونَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكُلِّ شَيْءٍ.
وَكَانَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصَدِّقًا لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ ، وَحَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالرَّجْمِ عَمَلا بِمَا فِي شَرِيعَةِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَهَلا احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِذَلِكَ ، وَلَوِ احْتَجُّوا لَشَاعَ نَقْلُ ذَلِكَ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَوْلٌ ابْتُدِعَ بَعْدَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَصْلٌ وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : أَنَّ عِيسَى وَمُحَمَّدًا عَلَيْهِمَا السَّلامُ كَانَا نَبِيَّيْنِ ، لَكِنَّهُمَا لَمْ يُبْعَثَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فَتَغْفِيلٌ مِنْ قَائِلِهِ ؛ لِأَنَّهُ إِذَا أَقَرَّ بِنُبُوَّةِ نَبِيٍّ فَقَدْ أَقَرَّ بِصِدْقِهِ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ لا يَكْذِبُ ، وَقَدْ كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ يُخَاطِبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَنَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَقُولُ : " بُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً " ، وَيُكَاتِبُ مُلُوكَ الأَعَاجِمِ.
فَصْلٌ فَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ النَّسْخِ وَالْبَدَاءِ ، فَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ : الأَوَّلُ : أَنَّ النَّسْخَ تَغْيِيرُ عِبَادَةٍ أَمَرَ بِهَا الْمُكَلِّفُ ، وَقَدْ عَلِمَ الْآمِرُ حِينَ الأَمْرِ أَنَّ لِتَكْلِيفِ الْمُكَلَّفِ بِهَا غَايَةً يَنْتَهِي الْإِيجَابُ إِلَيْهَا ، ثُمَّ يَرْتَفِعُ بِنَسْخِهَا ، وَالْبَدَاءُ أَنْ يَنْتَقِلَ الأَمْرُ عَنْ مَا أَمَرَهُ بِهِ وَأَرَادَهُ دَائِمًا بِأَمْرِ حَادِثٍ ، لا بِعِلْمٍ سَابِقٍ.
وَالثَّانِي : أَنَّ سَبَبَ النَّسْخِ لا يُوجِبُ إِفْسَادَ الْمُوجِبِ لِصِحَّةِ الْخِطَابِ الأَوَّلِ ، وَالْبَدَاءُ يَكُونُ سَبَبُهُ دَالًّا عَلَى إِفْسَادِ الْمُوجِبِ ، لِصِحَّةِ الأَمْرِ الأَوَّلِ ، مِثْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِعَمَلٍ يَقْصِدُ بِهِ مَطْلُوبًا ، فَيَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ لا يَحْصُلُ بِذَلِكَ الْفِعْلِ فَيَبْدُوَ لَهُ مَا يُوجِبُ الرُّجُوعَ عَنْهُ ، وَكِلا الأَمْرَيْنِ يَدُلُّ عَلَى قُصُورٍ فِي الْعِلْمِ ، وَالْحَقُّ عَزَّ وَجَلََّ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ.
المصدر
إسلام ويب
نواسخ القرآن لابن الجوزي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
|