[البرنسيسة]

مبروك جالك إزالة
كان حلم حياتي أن أسكن في شقة تطل على النيل، ولأنني رجل عملي لذلك أدركت أن عملي الحكومي لن يوفر لي ثمن مثل هذه الشقة.. فسافرت للخليج وعدت بعد عام ومعي مبلغ لا بأس به.. فاكتشفت أنه لا يكفي لشراء شقة في عزبة الصفيح وأنني لم أكن عمليا بالدرجة الكافية، وهو ما اضطرني للسفر ثانية.. وبعد عشر سنوات أمكنني أخيراً تحقيق حلمي.. ولكنني اكتشفت أن كل الشقق المعروضة للبيع على النيل تحتويها أبراج مثل ناطحات السحاب.. وبالرغم من أن أعلى مكان اعتلاه جدي كان ظهر جمله، إلا أنني وافقت على السكن في الدور الثلاثين في ذلك البرج الرائع المطل على النيل.. وبالرغم من أن المشهد أمامي كان فاتنا، إلا أنني أدركت أن المشهد من الطابق الخمسين سيكون أكثر روعة في نفس البرج.. ولكن حيث إنه كلما علت الشقة كلما زاد سعرها أدركت أنني في حاجة إلى عشر سنوات أخرى لتحقيق حلم السكن في الطابق الخمسين.. فاكتفيت باقتناص تلك الشقة الفاخرة في الطابق الثلاثين، ووقعت عقد الشراء مع المالك، ودفعت مليون جنيه كاملة، اضطررت من أجل إكمالها إلى بيع سيارتي الخاصة وخاتمي الفضي باعتبارهما آخر ما أملك في هذا العالم!

وبعد أن سكنت البرج فوجئت بمُحضر يطرق بابي ويسلمني انذار بإخلاء شقتي في الطابق الثلاثين.. ذلك لأن قراراً بإزالتها قد صدر من الحي لأن تصريح البرج كان بعشرة أدوار فقط!
وجن جنوني.. فأسرعت إلى مالك البرج ورخت فيه بأنه غشني وأعطاني شقة ير مرخصة في برجه.. وأن الحي يطلب إزالتها.. ولكنه واجهني بهدوء قائلاً: أنت قلقان ليه. الحي ما يقدرش ينفذ الإزالة لأن ما عندهمش الأدوات اللازمة.. وما عندهمش سلم حتى يطلع للدور العاشر.. يبقى حيوصلوا لك في الثلاثين إزاي؟ حينزلوا لك ببراشوت.. ثم إن بتوع الحي يا أخي مشغولين طول الوقت انهم يرصوا قصارى الورد في الشوارع اللي حيمشي فيها المسئولين.

قلت في ثورة: لكن شرطة البلدية مسئولة عن الإزالة.. وحتنفذ.
فأجابني ساخراً:
- لأ مش حينفذوا لأنهم مش فاضيين لك، أمال مين اللي حيمسك أم الخير بياعة الجرجير اللي بتقعد على الناصية علان ما معاهاش ترخيص.. وابو سريع بياع الكشري السريح عشان بيشغل الرصيف.. يا عم قول يا باسط؟ ونظر لي نظرة العارف ببواطن الأمور وقال: وبعدين اطمئن.. همه مش حيقدروا يهدوا الدور بتاع شقتك عارف ليه؟
سألته متشككاً: ليه؟
فأجابني وهو يقهقه ساخراً: صحيح الدور الثلاثين مش مرخص.. لكن أنا عملت تصالح مع الحي في الأدوار من 31 لحد 40..وإذا كانوا عاوزين يزيلوا الدور 30 يزيلوه من غيره ما يقربوا من بقية الأدوار لأن بقى ليها ترخيص رسمي وما يعتبروش أدواراً مخالفة.. مع أن الأدوار من واحد وأربعين لحد خمسين مخالفة.

سألته متشككا طب وافرض انهم طلعوا قرار إزالة الأدوار من واحد وأربعين لحد خمسين؟
أجابني مقهقها: يبقى ابني الدور واحد وخمسين وآخد بيه تصالح.. ويبقوا يوروني إزاي حيهدوا من 41 لحد 50 من غير ما يقربوا من الدور واحد وخمسين وإلا كنت أرفع عليهم قضية أخرب بيها بيتهم!

وربت على كتفي قائلاً: يا أستاذ اطمئن.. دي لعبتنا ما هم بتوع الدور حداشر لحد عشرين جالهم إزالة بس واحد وعشرين عملت بيه تصالح.. واتنين وعشرين إزالة بس ثلاثة وعشرون تصالح.. اطمن ومبروك.. قرار الإزالة اللي جالك بيأكد حقك في أن محدش حيقدر يزيل شقتك!

فانصرفت عنه وأنا أفكر في تلك الفزورة.. وخلال أيام تكشفت أشياء كثيرة .. فإن مالك هذا البرج كان مجرد خفير يحرس مخزن شركة مجاورة.. فشاهد قطعة أرض خالية ملك الدولة فأسرع بالإعلان عن بنائها فانهالت عليه النقود.. فبنى ذلك البرج.. فلما أفاق الحي وطالب باسترداد الأرض لم يستطع لأنها صارت ملكا للغفير بوضع اليد والبناء وهكذا تم التصالح وصرف رخصة بناء.. بعد أن تم البناء.. وكلما تعددت محاضر الإزالة كلما ارتفع البرج أكثر.

وعندما دك الزلزال مصر أقسم أنني رأيت هذا البرج يميل يميناً بزاوية 45 درجة قبل أن يميل يساراً بنفس الدرجة. ولكن ما تكفل بانهياره كان أحد التوابع .. ولحسن الحظ أن سكان البرج أخلوه قبل انهياره بدقائق.

واكتشفت أن أغلب سكان البرج المساكين قد وضعوا فيه تحويشة عمرهم كذلك وأن نصفهم صار يسكن خيام الايواء.. أما الآخرون مثلي ممن آثروا بدء المشوار من جديد في الخليج.. فقرأنا ذات يوم في احدى الجرائد الخليجية أن صاحب البرج قد تمكن من الهرب إلى أمريكا قبل صدور قرار القبض عليه بساعات.. وأنه هناك وضع يده على قطعة أرض خالية.. وقد شرع في إقامة ناطحة سحاب ولكنهم قبضوا عليه قبل أن يدق خازوقا واحداً في الأرض.. لأن الحي هناك ليس مشغولاً برص قصارى الزرع في الأماكن التي يزورها السادة المسئولون، كما أن عيونهم مفنجلة لمن يدق خازوقاً في غير موضعه!