...
...
...
...
...
...
أكتب هذه المقالة من باريس في رحلة علاج الركبتين
وأخشى أن أتهم بميلي إلى الغرب وأنا أكتبُ عنهم شهادة حق وإنصاف ،
ووالله إن غبار حذاء محمد بن عبد الله ( صلى الله عليه وسلم ) أحبُ
إليّ من أميركا وأوروبا مجتمِعَتين . ولكن الاعتراف بحسنات الآخرين
منهج قرآني ، يقول تعالى: « ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة ».
وقد أقمت في باريس أراجع الأطباء وأدخل المكتبات وأشاهد الناس
وأنظر إلى تعاملهم فأجد رقة الحضارة ، وتهذيب الطباع ، ولطف المشاعر ،
وحفاوة اللقاء ، حسن التأدب مع الآخر ، أصوات هادئة ، حياة منظمة ،
التزام بالمواعيد ، ترتيب في شؤون الحياة ، أما نحن العرب فقد سبقني
ابن خلدون لوصفنا بالتوحش والغلظة ، وأنا أفخر بأني عربي؛
لأن القرآن عربي والنبي عربي ، ولولا أن الوحي هذّب أتباعه
لبقينا في مراتع هبل واللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى .
ولكننا لم نزل نحن العرب من الجفاء والقسوة بقدر ابتعادنا عن الشرع المطهر.
نحن مجتمع غلظة وفظاظة إلا من رحم الله ، فبعض المشايخ
وطلبة العلم وأنا منهم جفاة في الخُلُق ، وتصحّر في النفوس ،
حتى إن بعض العلماء إذا سألته أكفهرَّ وعبس وبسر ،
الجندي يمارس عمله بقسوة ويختال ببدلته على الناس ،
من الأزواج زوج شجاع مهيب وأسدٌ هصور على زوجته
وخارج البيت نعامة فتخاء ، من الزوجات زوجة عقرب تلدغ وحيّة تسعى ،
من المسؤولين من يحمل بين جنبيه نفس النمرود بن كنعان كِبراً وخيلاء
حتى إنه إذا سلّم على الناس يرى أن الجميل له ، وإذا جلس معهم
أدى ذلك تفضلاً وتكرماً منه ، الشرطي صاحب عبارات مؤذية ،
الأستاذ جافٍ مع طلابه ، فنحن بحاجة لمعهد لتدريب الناس على
حسن الخُلُق وبحاجة لمؤسسة لتخريج مسؤولين يحملون الرقة
والرحمة والتواضع ، وبحاجة لمركز لتدريس العسكر اللياقة
مع الناس ، وبحاجة لكلية لتعليم الأزواج والزوجات فن الحياة الزوجية.
المجتمع عندنا يحتاج إلى تطبيق صارم وصادق للشريعة لنخرج
من القسوة والجفاء الذي ظهر على وجوهنا وتعاملنا . في البلاد
العربية يلقاك غالب العرب بوجوه عليها غبرة ترهقها قترة ،
من حزن وكِبر وطفشٍ وزهق ونزق وقلق ، ضقنا بأنفسنا
وبالناس وبالحياة ، لذلك تجد في غالب سياراتنا عُصي وهراوات
لوقت الحاجة وساعة المنازلة والاختلاف مع الآخرين ، وهذا الحكم
وافقني عليه من رافقني من الدعاة ، وكلما قلت: ما السبب ؟
قالوا: الحضارة ترقق الطباع ، نسأل الرجل الفرنسي عن الطريق
ونحن في سيارتنا فيوقف سيارته ويخرج الخارطة وينزل من
سيارته ويصف لك الطريق وأنت جالس في سيارتك ، نمشي في
الشارع والأمطار تهطل علينا فيرفع أحد المارة مظلته على رؤوسنا ،
نزدحم عند دخول الفندق أو المستشفى فيؤثرونك مع كلمة التأسف ،
أجد كثيراً من الأحاديث النبوية تُطبَّق هنا ، احترام متبادل ،
عبارات راقية ، أساليب حضارية في التعامل.
بينما تجد أبناء يعرب إذا غضبوا لعنوا وشتموا وأقذعوا وأفحشوا ،
أين منهج القرآن: « وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن » ،
« وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما » ، « فاصفح الصفح الجميل » ،
« ولا تصعّر خدّك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب
كل مختال فخور ، واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر
الأصوات لصوت الحمير » . وفي الحديث: « الراحمون يرحمهم الرحمن » ،
و « المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده » ،
و « لا تباغضوا ولا تقاطعوا ولا تحاسدوا » .
عندنا شريعة ربّانيّة مباركة لكن التطبيق ضعيف ، يقول عالم هندي:
( المرعى أخضر ولكن العنز مريضة ) . 
....
بقلم الدكتور / عائض القرني !
.
.
مفشوٍخ بإعجاب شديد 
"
تحيتي فهدوٍش 
"